العراق – السابعة الاخبارية
إياد الطائي، بعد أن قضيت أكثر من شهرين بين الطوارئ والعناية المشددة والعمليات وجرعات الكيماوي، سمحوا لي الأطباء أخيراً أن أغادر المشفى كي أغيّر من نفسيتي ومزاجي الذي أصبح حادًا نتيجة رقودي لمدة طويلة”…، بهذه الكلمات المؤلمة، كتب الفنان العراقي القدير إياد الطائي، قبل ثلاثة أشهر فقط من رحيله، واحدة من آخر رسائله إلى جمهوره. لم تكن مجرد كلمات شكر أو سرد لحالة صحية عابرة، بل كانت بمثابة وصية غير معلنة، تفيض بالحس الإنساني، وتفضح حجم الألم الذي كان يعيشه بصمت وكبرياء.
اليوم، رحل إياد الطائي عن عالمنا عن عمر ناهز الـ59 عامًا، بعد صراع مرير مع المرض، اختبر خلاله آلام الجسد وقسوة الغربة في العلاج، لكنّه لم يفقد يومًا إنسانيته أو امتنانه، أو تلك الروح النبيلة التي عرفها جمهوره وزملاؤه على مدار أكثر من ثلاثة عقود.
إياد الطائي.. حين يكتب الراحل وداعه بهدوء قبل أن يرحل
ما يجعل من كلمات إياد الطائي الأخيرة ذات أثر خاص، ليس فقط أنها كانت صادقة ومؤثرة، بل لأنها تعكس شخصية فنان حقيقي، لم يكن يومًا باحثًا عن الأضواء أو مستهلكًا للشهرة، بل كان ابنًا بارًا للفن، متواضعًا مع جمهوره، وفيًا لأصدقائه، وشاكرًا لكل من وقف معه في لحظاته العصيبة.
كتب يشكر نقيب الفنانين، وأصدقاءه في الوسط الفني، والمسؤولين الذين ساندوه، وخصّ بالذكر أسماءً ظلّت تتابع حالته لحظة بلحظة، مثل الفنانة آسيا كمال والفنانة آلاء حسين، وغيرهم ممن مدوا له يد الدعم.
لم تكن تلك مجرد لفتة شخصية، بل كانت دليلًا على رجل عاش حياته المهنية والإنسانية بنُبل وأخلاق عالية، حتى وهو يترنّح تحت وطأة المرض.
مرض ثقيل ووداع بطيء
خلال الأشهر الأخيرة من حياته، كان إياد الطائي يعاني من عجز كلوي مزمن وورم خبيث في الكبد، اضطره للسفر إلى الهند لتلقي العلاج في رحلة مرهقة جسديًا ونفسيًا. ومع ذلك، لم يكن صوته غائبًا عن جمهوره. بل كتب لهم، وحكى لهم عن محنته، بلغة بسيطة لكنها جارحة، لأنها كانت تصف الألم من الداخل دون مبالغة أو شكوى.
كان يعلم أنه قد لا يعود، ومع ذلك تحدّث بأمل، وشكر كل من ساعده. حتى وهو على حافة الحياة، لم يفقد ذلك التوازن بين الكرامة والتواضع، بين الاعتراف بالحاجة، والاحتفاظ برأسه مرفوعًا.
ابن المسرح.. ووجه الدراما الصادق
وُلد إياد الطائي عام 1965، وبدأ رحلته مع الفن في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن حصل على بكالوريوس في الفنون المسرحية، ودرس في معهد الفنون الجميلة. قبل ذلك، كان قد نال دبلومًا في الإدارة والمحاسبة، لكنه سرعان ما اختار طريق المسرح والتمثيل، لأنه وجد فيه نفسه وروحه.
في عام 1990، دخل المجال الفني رسميًا، وبدأت ملامحه تظهر على الشاشة العراقية والمسرح المحلي. لم يكن دخوله مدويًا، لكنه كان ثابتًا، مثل أغلب الفنانين الذين يعتمدون على الموهبة أكثر من الدعاية.
أكثر من مجرد ممثل
ما ميّز إياد الطائي خلال رحلته، أنه لم يكن مجرد ممثل يختار أدوارًا ليملأ بها رصيده، بل كان فنانًا ملتزمًا بالفكرة، والرسالة، والذوق. قدّم خلال مسيرته عشرات المسلسلات والمسرحيات، وربما لم يكن دائم الحضور على الشاشة، لكنه حين يظهر، يترك أثرًا لا يُمحى.
كان عضوًا فاعلًا في نقابة الفنانين العراقيين، وضمن الفرقة الوطنية للتمثيل في دائرة السينما والمسرح، ومثّل العراق في عدد من المحافل والمهرجانات الدولية. لكنه، في كل ذلك، لم يسعَ إلى الواجهة أو تلميع الأضواء، بل ظل محافظًا على صورته كفنان ملتزم، يحترم جمهوره وفنه.
وجه محبوب من الأجيال الجديدة
رغم تقدمه في العمر، إلا أن إياد الطائي لم يكن بعيدًا عن الجيل الجديد من الفنانين. عمل كأستاذ في معهد الفنون الجميلة، وأسهم في تخريج أجيال من المواهب الشابة، التي كانت ترى فيه أبًا روحيًا ومرشدًا مهنيًا لا يبخل بالنصيحة.
ومن الملفت أنه، رغم تدهور حالته الصحية، ظل متابعًا لكل ما يدور في الوسط، مهتمًا بزملائه وتطور الساحة الفنية، مما جعله قريبًا حتى من الجيل الذي لم يعاصره في بداياته.
الفن الذي لا يشيخ
قدّم الطائي أدوارًا متنوعة، تنقّل فيها بين الكوميديا والتراجيديا، وبين القضايا الاجتماعية والسياسية، لكنه كان يميل إلى الأدوار التي تترك أثرًا نفسيًا أو فكريًا. لم يكن يبحث عن البطولة المطلقة، بقدر ما كان يحرص على أن يكون حضوره له قيمة.
الكثيرون يتذكرون حضوره اللافت في أعمال مثل “الدهشة”، و”رجال الظل”، و”أبناء الريح”، وغيرها من الأعمال التي شكّلت جزءًا من الذاكرة الدرامية العراقية، خصوصًا في الفترات الصعبة التي مر بها البلد.
وفاء حتى في الرحيل
ربما كان من الممكن أن يرحل الطائي بصمت، دون أن يعلم الناس شيئًا عن معاناته. لكنه اختار أن يُشارك جزءًا من قصته، لا بدافع الشفقة، بل لأنّه كان صادقًا مع جمهوره حتى اللحظة الأخيرة.
وفي رسالته الأخيرة، ظهر واضحًا أن الرجل كان يود أن يُودّع، لا أن يُفاجئ أحدًا برحيله. ترك كلمات امتلأت بالوفاء، والشكر، والرضا، لتبقى شاهدًا على فنان اختار أن يعيش ويموت بشرف المهنة، وكبرياء الفنان الحقيقي.
تكريم لا يكفي
نعت نقابة الفنانين العراقيين الراحل بكلمات مؤثرة، قالت فيها إن الساحة الفنية فقدت أحد أبرز وجوهها المسرحية والتلفزيونية. وهذا الوصف لا يحمل فقط المجاملة المعتادة، بل يعكس حقيقة رجل ظل وفيًا لفنه حتى وهو يصارع الموت.
لكن، هل يكفي النعي؟
هل يكفي أن نرثي الطائي بعد رحيله؟
ربما يكون التكريم الحقيقي له هو أن نستمر في عرض أعماله، وتوثيق مسيرته، وتعليم الأجيال كيف يكون الفنان مبدعًا وإنسانيًا في آنٍ واحد.
وداعًا أيها المعلّم
رحل إياد الطائي…
لكن مَن قال إن الرحيل نهاية؟
بقيت كلماته، بقيت أدواره، وبقيت أخلاقه التي يشهد بها كل من عرفه.
وداعًا يا صاحب الروح الطيبة، يا من كتبت وداعك قبل أن ترحل، فخفّفت عنّا صدمة الغياب، وزرعت فينا درسًا لن ننساه:
أن العطاء لا يُقاس بالكم، بل بالصدق، وأن الفنان الحقيقي لا يعتزل الحياة، بل يترك فيها أثرًا أبديًا.
سلامًا لروحك، يا إياد الطائي.