العراق – السابعة الاخبارية
إياد الطائي، في صباح الجمعة، خيم الحزن على الوسط الفني العراقي برحيل الفنان القدير إياد الطائي، أحد أبرز وجوه الدراما والمسرح في العراق خلال العقود الثلاثة الماضية.
الخبر لم يكن مفاجئًا بالكامل، فالمقربون منه كانوا يعلمون حجم معاناته في الأشهر الأخيرة مع المرض، لكنه جاء صادمًا رغم ذلك، لأنه أنهى فصلًا طويلًا من الإبداع الهادئ والصادق الذي ميّز شخصية الطائي ومسيرته المهنية.
نقابة الفنانين العراقيين عبّرت عن بالغ حزنها لرحيله، مؤكدة أن الطائي لم يكن مجرد فنان، بل رمز من رموز العمل الدرامي الذي ظل وفيًا لفنه ومبدئيًا في اختياراته، رغم التحديات الكبيرة التي مرت بها الساحة العراقية خلال السنوات الماضية.
إياد الطائي.. سيرة حافلة بالعطاء
وُلد إياد الطائي عام 1965، وتخرج في كلية الفنون الجميلة – قسم المسرح، حيث كانت انطلاقته الأولى في تسعينيات القرن الماضي، ومنها بدأ مشوارًا فنيًا غنيًا لم يكن صاخبًا، لكنه كان متينًا وراسخًا في قلوب المتابعين.
ما ميّز الطائي، إلى جانب موهبته الأكاديمية، هو التزامه بأداء أدواره بصدق كامل، سواء في الأعمال التلفزيونية أو المسرحية أو السينمائية. كان يؤمن أن الفن لا يُقاس بعدد الأعمال بقدر ما يُقاس بأثرها، ولهذا نجده خلال أكثر من 25 عامًا، قدّم حوالي 45 مسلسلًا فقط، لكنه ترك فيها بصمات لا تُنسى.
الفنان والمعلم
لم يكن إياد الطائي فنانًا وحسب، بل كان معلمًا ومربيًا للأجيال. عمل مدرسًا في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وأسهم في تخريج دفعات عديدة من الممثلين الشباب الذين وجدوا فيه مثالًا يُحتذى، ليس فقط في الأداء الفني، بل في الأخلاق والانضباط والرؤية الثقافية.
كان الطائي يؤمن أن رسالة الفنان لا تكتمل إلا بمسؤوليته تجاه الجيل الجديد، ولهذا حرص على ألا يغيب عن قاعات الدرس رغم انشغاله في التصوير، وحتى خلال فترات مرضه كان يتابع طلابه ويقدّم لهم التوجيه والنصح.
معاناة صامتة مع المرض
في الأشهر الأخيرة، بدأ المرض يتمكن من جسد الطائي، فظهر عليه الإعياء وفقدان الوزن بشكل لافت. عانى من عجز كلوي مزمن، تزامن مع ورم خبيث في الكبد، وهو ما استدعى سفره إلى الهند لتلقي العلاج على أمل الشفاء.
ورغم تدهور حالته الصحية، لم يكن الطائي يُظهر ضعفًا أو شكوى، بل احتفظ بابتسامته الدافئة، وكان يرد على من يسأل عن حاله بكلمات قليلة تحمل الكثير من الرضا والسكينة. كان يعلم أن لحظة النهاية تقترب، لكنه ظل متماسكًا، حريصًا على ألا يُثقل على أحد.
وداعًا من قلوب محبة
لحظة إعلان وفاته، تحوّلت صفحات التواصل الاجتماعي إلى ساحة عزاء كبيرة، حيث نعاه زملاؤه وأصدقاؤه وجمهوره بكلمات حزينة ومليئة بالحب.
الفنان الإماراتي حبيب غلوم كان من أوائل من عبّر عن حزنه لرحيل الطائي، مؤكدًا في منشور له أن الفقيد كان فنانًا أصيلًا وإنسانًا راقيًا، وأن خسارته لا تخص العراق وحده، بل هي خسارة لكل من عرفه عن قرب.
رصيد فني لا يُنسى
من يتتبع مسيرة إياد الطائي يكتشف أنه لم يكن أسير نوع واحد من الأدوار. تنقّل بين الكوميديا والتراجيديا، بين الدراما الاجتماعية والتاريخية، وأدى الشخصيات المعقدة والبسيطة بنفس الإتقان.
من أبرز المسلسلات التي شارك فيها:
- “رجال الظل”
- “سجناء الماضي”
- “أعماق الأزقة”
- “الدهشة”
- “أبناء الريح”
لكنه لم يركن للتلفزيون فقط، بل ظل وفيًا للمسرح الذي اعتبره بيته الأول. قدّم العديد من المسرحيات التي ناقشت قضايا الإنسان العراقي وهموم المجتمع، وغالبًا ما كانت أعماله تتناول موضوعات الهوية، الانتماء، والحرية، بلغة فنية راقية.
فنان بلا ضجيج
ما يميز إياد الطائي عن كثير من أقرانه هو غيابه المتعمد عن الأضواء الصاخبة. لم يكن يلهث خلف الشهرة، ولم يظهر في البرامج الفنية لمجرد الظهور، بل كان حريصًا على أن تكون صورته لدى الجمهور مرتبطة بالفن وحده.
حتى في سنوات السوشيال ميديا، ظل الطائي بعيدًا عن استعراض الحياة الشخصية أو الدخول في مهاترات فنية أو إعلامية. اختار أن يحتفظ لنفسه بمسافة تحفظ له احترامه، وهي مسافة طالما افتقدها الوسط الفني.
رجل المهرجانات والمحافل الدولية
لم يكن الطائي فنانًا محليًا فحسب، بل مثّل العراق في العديد من المهرجانات الدولية، وكان وجهًا مشرفًا في المحافل المسرحية والإعلامية خارج البلاد. وكان عضوًا فاعلًا في الفرقة الوطنية للتمثيل بدائرة السينما والمسرح، كما شارك في فعاليات ثقافية عربية متنوعة، حيث مثّل بلاده بروح المثقف والفنان معًا.
في كل تلك المشاركات، لم يكن مجرد ممثل يؤدي دورًا، بل كان سفيرًا فنيًا حقيقيًا يعكس صورة العراق الثقافية الراقية، في وقت كانت فيه البلاد تمر بتحديات كبيرة على المستويات كافة.
رحيل الفنان.. وبقاء القيمة
برحيل إياد الطائي، يخسر العراق أحد أعمدته الفنية الصامتة، الفنان الذي لم يسعَ للنجومية الزائفة، بل آمن بأن الفن رسالة تُقدَّم بصدق، وأن الشهرة الحقيقية تأتي من البقاء في وجدان الناس، لا من عناوين الصحف.
لكن رغم الغياب الجسدي، يبقى الطائي حيًا في ذاكرة من عرفه، من زامله في العمل، من تتلمذ على يديه، ومن تأثر بأدواره. يبقى حيًا في المشاهد التي أداها بإتقان، وفي المواقف التي واجهها بشجاعة، وفي الابتسامة التي ظلت على وجهه حتى في أيامه الأخيرة.
رسالة إلى الجيل الجديد
رحيل إياد الطائي ليس مجرد خبر يُتداول، بل رسالة مؤثرة للفنانين الشباب: أن الفن ليس استعراضًا، ولا ضوءًا سريعًا، بل رحلة تحتاج إلى الصدق، الالتزام، والوفاء.
الطائي قدّم نموذجًا لفنان مثقف، هادئ، ملتزم، لا يصنع ضجيجًا لكنه يترك أثرًا، وهذا ما جعله محبوبًا في الوسط الفني وخارجه.
ختامًا: حين يخفت النور.. يبقى الأثر
في النهاية، يخفت صوت الطائي على المسرح، ويغيب وجهه عن الشاشة، لكن أثره لا يغيب. تظل أعماله تتحدث عنه، وتظل القيم التي آمن بها تسري في دماء المسرح العراقي، وفي ذاكرة الدراما العربية.
رحل إياد الطائي، وترك وراءه مشوارًا من الإبداع والإخلاص. رحل بهدوء يشبه أسلوبه، وبكرامة تشبه أخلاقه.
رحل، لكن فنه باقٍ، وذكراه حيّة في قلب كل من عرفه، أو شاهد له عملًا، أو تلقى على يديه درسًا ذات يوم.
وداعًا إياد الطائي… رحلت جسدًا، لكنك باقٍ فينا فنًا وروحًا.