تركيا – السابعة الاخبارية
اعتقال، في مشهد أعاد طرح العلاقة المعقدة بين الفن والسلطة في تركيا، اعتقلت السلطات الأمنية مساء الاثنين ميرفي جونتام، كاتبة مسلسل شراب التوت، من منزلها الواقع في حي جيهانغير الشهير وسط إسطنبول.
جاء هذا التوقيف، الذي وصفه البعض بـ”المفاجئ”، على خلفية تصريحات قديمة أدلت بها الكاتبة قبل نحو أربع سنوات، في مقابلة على يوتيوب، تعود اليوم لتشعل الجدل من جديد، وتضع الكاتبة في مرمى الاتهامات الأخلاقية والقانونية، وسط تصعيد متسارع من قبل جهات رسمية وإعلامية.
اعتقال كاتبة مسلسل “شراب التوت”.. ما الذي قالته ميرفي جونتام؟
التصريحات التي فجرت العاصفة نُشرت ضمن مقابلة ثقافية عام 2021، حيث تحدثت الكاتبة عن الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه الفتيات الشابات في تركيا. وقالت وقتها:
“الفتيات يجدن وسيلة مسلية لتحقيق أحلامهن، يقمن بعلاقات مقابل المال، فما المشكلة في ذلك؟ الظروف في البلاد هي التي تمنحهن هذه الدافعية.”
وبينما رآها البعض توصيفًا فنيًا حادًا لواقع اجتماعي معين، اعتبرها آخرون تطبيعًا واضحًا لسلوكيات “غير أخلاقية”، بل ذهب البعض إلى اتهامها بالترويج لانهيار القيم العائلية والمجتمعية.
توقيف بعد إعادة النشر
تقول رواية الدفاع إن التصريح الذي أُعيد تداوله لم يكن رأيًا شخصيًا للكاتبة، بل تعليقًا أدبيًا يصف دوافع شخصية خيالية ظهرت في أحد أعمالها القديمة، وليس في مسلسل “شراب التوت”. إلا أن نشر المقطع مجددًا خارج السياق، على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أشعل موجة غضب كبيرة.
وتزامن ذلك مع إعلان هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية RTÜK فتح تحقيق رسمي في مسلسل “شراب التوت” نفسه، بزعم “الإساءة لقيم المجتمع التركي”، وهو ما دفع كثيرين لاعتبار أن الهجوم على الكاتبة جزء من حملة أوسع تستهدف العمل الفني نفسه.
محامي الكاتبة: اغتيال معنوي منظم
في أول تعليق قانوني، قال محامي ميرفي جونتام إنهم لا يعرفون حتى اللحظة طبيعة التهمة الرسمية، لكن التوقيف تم نتيجة بلاغات عامة وتحركات إعلامية شعبوية، أعادت تدوير تصريح قديم، وقدّمت الكاتبة كعدو للقيم الاجتماعية.
وأوضح أن التصريح محل الجدل كان سردًا دراميًا لطبيعة شخصية خيالية في أحد المسلسلات، وليس تعبيرًا مباشرًا عن قناعة شخصية. لكنه، وبعد اقتطاعه من سياقه، أصبح أداة لتأليب الرأي العام.
وأشار المحامي إلى أن ميرفي تعرضت خلال الأيام الماضية إلى حملة اغتيال معنوي منظمة، شملت شتائم وتهديدات بالقتل، طالتها وطالت طفلها الرضيع الذي لم يتجاوز عمره 5 أشهر، مؤكدًا أن حالتها النفسية باتت خطيرة بسبب الخوف والضغط والعزلة.
عام “العائلة” وموسم الرقابة
من جانبه، أعلن رئيس RTÜK، إبراهيم شاهين، أن عام 2025 هو “عام العائلة” في تركيا، وأن الهيئة ستتخذ إجراءات صارمة ضد أي محتوى فني يمس ما وصفه بـ”الأعمدة القيمية للمجتمع التركي”.
وأضاف شاهين في تصريحاته أن “الأعمال التي تسيء للأسرة لا تؤثر فقط على الشاشة، بل تمتد إلى روح أطفالنا، وتؤثر على مستقبل شبابنا وأمن مجتمعنا”، في إشارة واضحة إلى مسلسل “شراب التوت” وأمثاله من الأعمال التي تتناول مواضيع حساسة.
وقد رأى كثير من النقاد أن هذا الإعلان بمثابة ضوء أخضر لبدء موسم رقابي جديد، تحت غطاء “القيم العائلية”، قد يؤدي إلى محاصرة حرية التعبير الإبداعي، خاصة في الدراما التلفزيونية التي تشهد في السنوات الأخيرة طفرات إنتاجية ونقاشات مجتمعية حادة.
مسلسل “شراب التوت”: فن أم استفزاز؟
منذ بداية عرضه على قناة Show TV، أثار “شراب التوت” جدلًا واسعًا بسبب تناوله لقضايا حساسة مثل الطبقية، العلاقات المحرمة، قمع النساء، والازدواجية الأخلاقية في المجتمع. ويُعرف المسلسل بأنه يسلط الضوء على تصادم بين عائلتين من خلفيتين ثقافيتين متناقضتين، في معالجة درامية مثيرة.
لكن مع مرور الوقت، بدأ المسلسل يواجه اتهامات متزايدة من قبل المحافظين، ووُصف بأنه “يتجاوز الخطوط الحمراء”، وأنه يشكل خطرًا على الأطفال والمراهقين من خلال تصويره لحالات تمرد اجتماعي وتحرر من القيود الأسرية.
ومع تصاعد هذا الهجوم، جاء توقيف الكاتبة ليضيف مزيدًا من الغموض حول مصير العمل، وسط أنباء عن احتمالية توقيف بثه، أو فرض رقابة مشددة على محتواه الحواري والدرامي.
ردود فعل من الوسط الفني
لم يصمت الوسط الفني طويلاً، فقد أعرب عدد من الكتاب والمخرجين والممثلين عن تضامنهم مع ميرفي جونتام، معتبرين ما حدث “تهديدًا مباشرًا لحرية الفن”.
وفي سلسلة منشورات على وسائل التواصل، وصف بعض الفنانين الاعتقال بأنه محاولة إسكات الأصوات الجريئة، فيما حذر آخرون من أن مثل هذه الإجراءات قد تدفع الكُتّاب إلى الرقابة الذاتية، مما يؤدي إلى تدهور جودة الأعمال الدرامية.
وقالت ممثلة بارزة في المسلسل: “أعمالنا تسأل أسئلة لا يريد البعض سماعها، لكن لا يمكن سجن الفن، ولا محاكمة الخيال”.
قضية تتجاوز الفن
يتفق محللون على أن القضية لم تعد تتعلق فقط بتصريح كاتبة أو مضمون مسلسل، بل أصبحت رمزًا لصراع أعمق بين تيارين داخل المجتمع التركي:
- تيار محافظ يرى أن الفن يجب أن يراعي القيم التقليدية ويخضع للرقابة.
- وتيار آخر يدافع عن حرية الإبداع والتعبير مهما كانت المواضيع المطروحة صادمة أو غير تقليدية.
هذا الصراع لم يبدأ مع “شراب التوت”، ولن ينتهي معه، لكنه يكشف عن هشاشة العلاقة بين السلطات والفن المستقل في بيئة تشهد تحولات سياسية واجتماعية متسارعة.
ما التالي؟
فيما لا تزال الكاتبة قيد التوقيف، من المتوقع أن تتضح التهم خلال الأيام القليلة القادمة، وقد يتم إطلاق سراحها بشروط، أو إحالتها إلى محاكمة، بحسب مسار التحقيق.
من جانب آخر، يراقب عشاق المسلسل ومعارضوه على حد سواء مصير “شراب التوت”، إذ يخشى البعض أن تكون هذه بداية نهاية مبكرة للمسلسل، فيما يأمل آخرون أن يؤدي الجدل إلى زيادة شعبيته ومشاهدته، كما حدث مع أعمال سابقة واجهت الهجوم ثم تحوّلت إلى رموز مقاومة فنية.
خاتمة: حرية التعبير في مرمى النيران
في بلد يعيش تحت وطأة الاستقطاب الحاد، تصبح حرية التعبير الفني هدفًا سهلًا عند كل أزمة، وتتحول تصريحات قديمة إلى قنابل موقوتة. لكن اعتقال كاتبة لمجرد تعليق أدبي، ولو كان مثيرًا للجدل، يطرح تساؤلات عميقة حول حدود الحرية وحدود السلطة في تركيا اليوم.
رحلة “شراب التوت” قد تكون في خطر، لكن النقاش الذي أثاره لن ينتهي قريبًا، بل قد يفتح الباب أمام نقاشات أوسع حول الفن، الأخلاق، والسياسة، في مجتمع يزداد استقطابًا، ويحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى مساحات للخيال… لا إلى الزنازين.