أستراليا – السابعة الإخبارية
الانضباط المالي.. في عالم يتزايد فيه التركيز على الثروة كمؤشر على النجاح والسعادة، جاءت دراسة أسترالية حديثة لتقدم رؤية مختلفة تمامًا، مفادها أن السعادة الحقيقية لا ترتبط بحجم الدخل، بل بكيفية إدارة هذا الدخل.
فقد توصل فريق من الباحثين إلى أن العادات المالية البسيطة، مثل الادخار المنتظم وسداد الفواتير في وقتها، تترك أثرًا نفسيًا إيجابيًا يفوق بكثير تأثير الدخل المرتفع.
نُشرت نتائج هذه الدراسة اللافتة في مجلة Stress and Health، بعد متابعة استمرت أكثر من 20 عامًا وشملت ما يزيد عن 20 ألف مشارك من مختلف الفئات الاجتماعية والاقتصادية في أستراليا.

وفقًا لما ذكره موقع “روسيا اليوم”، ركز الباحثون على العلاقة بين السلوك المالي الشخصي والصحة النفسية، في محاولة لفهم أي الجوانب لها التأثير الأكبر على الرضا العام عن الحياة.
وقد أظهرت النتائج أن الأفراد الذين يتبعون سلوكًا ماليًا منضبطًا – أي يدخرون بانتظام، ويسددون فواتيرهم دون تأخير، ويتجنبون الديون الاستهلاكية المفرطة – كانوا أكثر استقرارًا نفسيًا وأقل عرضة للقلق والتوتر، مقارنة بغيرهم ممن قد يحققون دخلًا أعلى، ولكن دون إدارة مالية فعالة.
المال وسيلة.. لا غاية ولكن الانضباط المالي
هذه النتائج تعيد طرح سؤال فلسفي واجتماعي طالما كان محور النقاش: هل المال يشتري السعادة؟ الإجابة هنا ليست بالنفي المطلق، بل بالتأكيد على أن الطريقة التي نستخدم بها المال هي التي تحدد أثره على رفاهيتنا النفسية. فالشعور بالأمان المالي، الناتج عن التخطيط المسبق والتحكم بالمصاريف، يمنح الإنسان نوعًا من السلام الداخلي لا يستطيع الثراء المفاجئ أو غير المُدار أن يوفره.
أوضحت الدراسة أن الأشخاص الذين يديرون دخلهم بحكمة يشعرون بارتياح أكبر عند مواجهة الظروف الطارئة، لأنهم يدركون أنهم مستعدون لها ماليًا. وهذا يخفف عنهم ما يُعرف بـ”الضغوط المالية الخفية”، وهي تلك المشاعر غير المعلنة من التوتر والقلق الناتجة عن المخاوف المستمرة من عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات الشهرية أو تغطية النفقات غير المتوقعة.
الاستقرار النفسي في مواجهة الأزمات
ما يميز هذه الدراسة هو أنها لم تقتصر على الفترات الاقتصادية المستقرة، بل شملت فترات أزمات مالية كبرى، مثل الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، وجائحة كوفيد-19، وهما حدثان تسببا في اضطرابات مالية ونفسية على مستوى العالم.
رغم التقلبات التي مرت بها الأسواق العالمية، لاحظ الباحثون أن الأفراد الذين حافظوا على عادات مالية منضبطة كانوا أكثر قدرة على التكيف والصمود نفسيًا، مقارنة بأولئك الذين اعتمدوا على الدخل فقط دون تخطيط مالي طويل الأمد. وهذا يعكس حقيقة مهمة: الانضباط المالي يعزز مناعة الإنسان النفسية أمام التقلبات الخارجية.

الادخار وتأثيره بين الجنسين
ومن النتائج اللافتة التي توصلت إليها الدراسة، هو أن الرجال أظهروا استفادة نفسية أوضح من العادات الادخارية مقارنة بالنساء، رغم أن كلا الجنسين استفادا بدرجات مختلفة. ويرى الباحثون أن هذا قد يكون مرتبطًا بأنماط التفكير المختلفة بين الجنسين فيما يخص الأمان المالي والتخطيط للمستقبل.
كما أكدت الدراسة أن العلاقة ليست عكسية، أي أن التمتع بحالة نفسية جيدة لا يعني بالضرورة أن الشخص جيد في إدارة أمواله، ما يعني أن العادات المالية ليست ناتجة فقط عن الرفاهية النفسية، بل هي سبب مباشر لها في كثير من الحالات.

دروس واقعية في زمن التضخم
في ظل ما يشهده العالم من ارتفاع معدلات التضخم وتكلفة المعيشة، تأتي نتائج هذه الدراسة لتذكّرنا بأن الإدارة المالية الحكيمة قد تكون خط الدفاع الأول ضد القلق المالي المزمن. فحتى من لا يمتلكون دخولًا مرتفعة، يمكنهم من خلال الانضباط المالي أن ينعموا بنفس درجات الرضا التي يشعر بها ذوو الدخل العالي – وربما أكثر.
ما تقدمه هذه الدراسة ليس مجرد أرقام، بل دعوة لإعادة التفكير في علاقتنا بالمال. فبدلًا من ملاحقة الدخل المرتفع كهدف وحيد، من الأجدى أن نتعلم كيف ندير مواردنا الحالية بكفاءة. إن مفتاح السعادة المالية ليس في الثراء، بل في الوعي المالي، والادخار المنتظم، والتخطيط للمستقبل دون الإفراط أو التهور.
في النهاية، تبقى السعادة هدفًا شخصيًا، لكن من المؤكد أن الإدارة المالية الجيدة تفتح الطريق نحو حياة أكثر استقرارًا وطمأنينة – سواء كنا من أصحاب الدخول العالية أو المتوسطة أو حتى المتواضعة.
عرض هذا المنشور على Instagram