متابعات- السابعة الإخبارية
كتب زكي الصناعي مقالة تحدث فيها عن مدى نجاح فيلم “المخطوفة بعيدًا”، حيث ذكر العديد من أسباب نجاح المخرجة هاياو ميازاكي.
وجاء في مقال الصناعي: كثيرًا ما أجد نفسي أفكر في مدى اتساع الإنترنت والإمكانيات اللانهائية التي يوفرها، حتّى أنني بتّ الآن على بعد ثوانٍ فقط من تلقي أمر جديد لكتابة مقالات في شتّى المواضيع وأكثرها تعقيدًا.
لكن مع ذلك، أتيحت لي فرصة التفكير بسيناريو خيالي ينتهي فيه الإنترنت، أو تقفل ماسورته كما يقولون، حيث يطلب منّي أن أحدّد فيلما واحدًا فقط لتنزيله ومشاهدته إلى الأبد. لو حصل فعلًا وكنت في مثل هذا الموقف، فإني سأختار بلا شكّ فيلم “المخطوفة بعيدًا”، أو (Spirited Away).
الفيلم من إخراج هاياو ميازاكي، وهو عمل أنيميّ بارع أسر الجماهير وحشد المعجبين من جميع الأعمار منذ إطلاقه في عام 2001. يحكي هذا الفيلم قصة فتاة صغيرة تدعى شيهيرو، والتي تبدأ بعد دخول عالم سحري خياليّ، رحلة لاكتشاف الذات وتعلم قيمة الصداقة والمثابرة والرحمة والتعاطف والثقة. وفي ذات الوقت، فإن الفيلم مفعم بالإشارات الدقيقة لطبيعة المجتمع الحديث والنزعة الاستهلاكية فيها ومخاطرها على البشر وأثرها على الكبار والصغار والكون من حولهم وعلاقتهم به.
ما يميز فيلم “المخطوفة بعيدًا” بين أفلام الرسوم المتحركة الأخرى هو اهتمامه المذهل بالتفاصيل وطريقة عرضها على نحو يترك مساحات متجدّدة للتفسير في كل مشاهدة، ممزوجة برؤية ميازاكي الفنية الفذّة. فالفيلم غني بالرمزية، وكل مشهد مصنوع بشكل جميل لخلق إحساس لا يبلى بالدهشة والسحر.
يكمن فن ميازاكي في هذا الفيلم في قدرته على خلق عالم سحري يعكس تعقيدات وتناقضات حياتنا الحديثة. تدور معظم أحداث الفيلم في حمام للأرواح (أرواح وآلهة ومزيج بينها لا يمكن سبر ماهيّته) حيث يتعين على شيهيرو، بطلة الفيلم، أن تتنقل في متاهة من السلطة المطلقة والجشع وصراعات السلطة لإنقاذ والديها اللذين تحوّلا إلى خنزيرين بسبب الأكل بشراهة من طعام معدّ لزوّار ذلك الحمام، والعودة معهما إلى عالم البشر.
الحمام هو صورة مصغرة لمجتمعنا المعاصر، حيث البشر محاصرون في دوائر الاستهلاك والمادية والجشع. يتم تصوير الأرواح التي تأتي إلى الحمام على أنها فئة هائمة على وجهها من المستهلكين الذين فقدوا الاتصال بجذورهم الروحية وأصبحوا محاصرين في دائرة مفرغة من الرغبات اللانهائية، دون اعتبار لآلام من حولهم. وهذا ما جعل الكثير من النقاد ينظرون إلى الفيلم باعتباره حكاية تحذيرية، تحثنا على التشكيك في علاقتنا بالعالم المادي والنظر في عواقب أفعالنا.
لكن بالإضافة إلى نقده للاستهلاك، يحتفي فيلم “المخطوفة بعيدًا” أيضًا بقوة الخيال والإبداع، ويطلق لهما العنان بعيدًا في فضاء رحب وجميل ومليء بالأمل والعطف والإيمان بالخير بالآخرين والابتعاد عن الحكم بناء على المظهر. وهكذا يدغدغ هذا الفيلم ذلك الخيال الطفولي البريء لدى المشاهدين، ويمنحهم الراحة وهو ينقلهم إلى عوالم متحررة من الشاشات التي تهيمن على حياتنا. يذكرنا هذا الفيلم أنه يمكننا تلمّس السحور والعثور بالأسئلة المهمّة في العالم من حولنا إذا كنا على استعداد للنظر إلى ما وراء المظاهر وحواجزها، ومنح فرصة لإنعاش إحساسنا الفطري المرتبط بالفضول والاندهاش.
ومن هنا فإن أحد الجوانب الأكثر لفتًا للانتباه في هذا الفيلم، هو قدرته على شحذ خيال الأطفال. إذ يأخذ الفيلم المشاهدين بعيدًا في رحلة تتجاوز حدود الواقع، ويلهمهم للتفكير فيما وراء المألوف واستكشاف إمكانيات عقولهم. يخلق فن ميازاكي واهتمامه بالتفاصيل عالماً آسرًا وغامرًا، يجذب المشاهدين إلى عالم من الخيال والدهشة الرائعة والأمل اللذيذ.
إن فيلم “المخطوفة بعيدًا” هو فيلم يتحدّث إلى الجميع، من مختلف الأعمار والخلفيات، ويفتح الباب مشرعًا على معانٍ لامتناهية، تتجدّد مع كل تجربة وخبرة جديدة في حياتنا. فهذا الفيلم لا يبلى من تكرار المشاهدة، سواء كان ذلك من خلال الرمزيات التي يحفل بها أو الشخصيات المتعددة التي يضمها. وفوق ذلك كله، فإن الفيلم يقدّم موسيقى رائعة، وهي من تأليف الموسيقار الشهير والذي ساند ميازاكي في مختلف أعماله، جو هيسايشي (Joe Hisaishi). تلك الموسيقى أصبحت عالمًا بحد ذاته، ومساحة للاستكشاف، مما يضيف إلى تجربة الفيلم الغامرة بالفعل.
لهذه الأسباب وغيرها سأختار فيلم “المخطوفة بعيدًا”، لو تعيّن عليّ اختيار فيلم واحدٍ ليظل معي إلى الأبد في حال انتهى عصر الإنترنت.