اسطنبول – السابعة الإخبارية
تشهد الساحة التركية انقساماً مجتمعياً وقانونياً حاداً، أعاد إلى الواجهة ملف الكلاب الضالة الشائك، وذلك بعد قرار قضائي حديث أيّد تشريعاً يفتح الباب أمام تطبيق ما يُعرف بـ “القتل الرحيم” للحيوانات التي تُعد خطراً أو لا يمكن السيطرة عليها. هذا القرار، الذي يهدف للحد من تزايد الحوادث المرتبطة بانتشار الكلاب الضالة في المدن، لم يمر دون إثارة مخاوف عميقة تعود بجذورها إلى حوادث تاريخية مأساوية، ربطها البعض بنكبات طبيعية هزّت البلاد.

حكم المحكمة الدستورية: الموازنة بين سلامة الإنسان وحق الحيوان في الحياة
أقرّ البرلمان التركي في وقت سابق من العام الماضي قانوناً واسع النطاق لتنظيم انتشار أعداد الكلاب الضالة المتزايدة، والتي أصبحت تشكل تحدياً جدياً للسلامة العامة، مع تزايد التقارير عن هجمات مباشرة وحوادث سير مميتة ناتجة عن حالات الهروب والصدام مع الحيوانات. هذا التشريع لا يكتفي بوضع ضوابط لتقليل التكاثر والإيواء في محميات مغلقة، بل يسمح في حالات محددة باللجوء إلى إنهاء حياة الحيوان تحت مسمى “القتل الرحيم” (Euthanasia)، عندما يُعتبر الحيوان مؤذياً أو خطراً لا يمكن إدارته.
القرار الأخير الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا جاء ليصب الزيت على نار الجدل، حيث أيّدت غالبية كبيرة من القضاة (13 من أصل 15 عضواً) دستورية هذا التشريع. فيما شكّل اعتراض العضوين الآخرين نقطة الارتكاز للمعارضين، مؤكدين أن القانون يضع مصلحة الإنسان في المقام الأول والأخير، متجاهلاً بشكل تام حق الحيوان في الحياة ككائن حي يستحق الرحمة.
استدعاء “حادثة سيفيري” 1910: صرخة الكلاب وزلزال مرمرة
أبرز ما لفت الانتباه في حيثيات الاعتراض القضائي هو استحضار التجارب التاريخية، ولا سيما ما أشار إليه القاضي المعارض، كنان ياشار، عن حادثة وقعت مطلع القرن العشرين. ففي عام 1910، اتخذت السلطات العثمانية قراراً بنقل ما يقدر بنحو 80 ألف كلب ضال من اسطنبول إلى جزيرة “سيفيري” (Seferi Island) القاحلة، وهناك، تُرِكت الكلاب لمصيرها المحتوم وهو الموت جوعاً وعطشاً.
هذا الحدث، الذي يُنظر إليه اليوم كواحد من أبشع فصول الإساءة للحيوان في تاريخ المنطقة، لم يقتصر تأثيره على الجزيرة المنكوبة. فقد ربط العديد من سكان المنطقة، خاصة بعد وقوع زلزال مدمر في بحر مرمرة عام 1912، بين هلاك هذه الأعداد الهائلة من الكلاب والنكبة الطبيعية. أُطلق على ما جرى حينها وصف “صرخة الكلاب”، في اعتقاد شعبي بأن تسبب الإنسان في هذا القدر من المعاناة للحيوانات جلب عليهم غضب الطبيعة أو عقاباً روحياً تمثل في الزلزال.
وفي اعتراضه، استند القاضي ياشار أيضاً إلى الموروث التركي والإسلامي الغني بالقصص والروايات التي تحضّ على الرحمة بالكائنات الحية والرفق بها، وتشدد على عقوبة الإساءة إليها. هذا الاستدعاء للتاريخ ليس مجرد استحضار لقصة قديمة، بل هو تحذير من أن تجاهل البوازن الأخلاقي والروحي في التعامل مع مخلوقات الله قد يكون له تبعات تتجاوز الأبعاد المادية.

الواقع الحالي والحلول المطروحة: الضرورة القصوى مقابل الأخلاق
من جهة أخرى، يشدد مؤيدو التشريع على أن اللجوء إلى “القتل الرحيم” ليس خياراً أولياً أو عشوائياً، بل هو إجراء يُتخذ حصراً في حالات الضرورة القصوى التي يشكل فيها الحيوان خطراً مباشراً أو عندما تكون حالته الصحية ميؤوساً منها. ويؤكدون أن العملية تتم بأقصى درجات الإشراف البيطري، وبطرق تضمن أقل قدر ممكن من الألم (Humanely)، وهو ما يميزه عن مجازر 1910.
يواجه تركيا اليوم تحدي الإدارة الفعالة لتجمعات الكلاب الضالة التي تملأ شوارع المدن، حيث تسبب البعض منها في فوضى اجتماعية وحوادث مأساوية. ويرى مؤيدو التشريع أنه في غياب الموارد الكافية لإيواء وعلاج وإعادة تأهيل عشرات الآلاف من الكلاب، يصبح التخلص من تلك التي لا يمكن السيطرة عليها خطراً أمراً لا مفر منه لضمان السلامة العامة.
ومع ذلك، تبقى “صرخة الكلاب” صدى تاريخياً يتردد في النقاش الحالي، مُذكّرة الأتراك بأن الحلول السريعة والقاسية لمشاكل الحيوان لم تكن يوماً خالية من الجدل الأخلاقي العميق أو التخوفات الروحية المرتبطة بالذاكرة الجمعية. يضع القرار تركيا أمام اختبار صعب: هل ستجد حلاً عملياً يضمن سلامة الإنسان دون تكرار أخطاء الماضي التي لا تزال تُذكّر بـ “الصرخة” المدوية للكلاب قبل أكثر من قرن؟

