تونس – السابعة الإخبارية
الصلاة.. أثار مقطع فيديو انتشر على منصات التواصل الاجتماعي في تونس جدلاً واسعاً، بعد أن ظهر فيه أحد طلاب معهد محمد بوذينة بمدينة الحمامات وهو يحمل سجادة صلاة استعداداً لأداء فرضه داخل ساحة المدرسة، قبل أن تتدخل المديرة وتمنعه، مطالبة التلاميذ بتأجيل صلاتهم إلى حين عودتهم إلى منازلهم.
مشهد أثار الانقسام
المقطع، الذي وثّق مشادة كلامية بين المديرة ومجموعة من الطلاب، أظهر إصرار التلاميذ على موقفهم، إذ رد أحدهم قائلاً: “هذهأرض الله وليست أرضك”، لتبدأ بعدها موجة احتجاج من زملائه انتهت بأداء صلاة جماعية في ساحة المدرسة، متحدّين قرار الإدارة.
هذا المشهد القصير كان كفيلاً بإشعال نقاش كبير داخل المجتمع التونسي، خاصة أنه يلامس قضايا الهوية، الحريات الفردية، ومكانة المدرسة العمومية في دولة تُعرّف نفسها بأنها “مدنية” وفق الدستور.

ردود سياسية متباينة
سرعان ما تحولت الواقعة إلى قضية رأي عام، بعدما علّقت النائبة البرلمانية فاطمة المسدي على الحادثة عبر تدوينة في فيسبوك، أكدت فيها أن المدرسة العمومية “فضاء للتعلم وتكوين العقول، وليست مكاناً لممارسة الشعائر الدينية”. وأضافت أن الدستور التونسي “يكفل حرية المعتقد والضمير”، لكنه في المقابل “يفرض حياد المؤسسات العمومية”، مشددة على أن تحييد المدرسة واجب وطني حتى تبقى “منارة للعلم والمعرفة بعيداً عن أي توظيف ديني أو أيديولوجي”.
على الجانب الآخر، اعتبر بعض النشطاء أن منع التلاميذ من الصلاة “تعدٍّ على حق أصيل يكفله الدستور وحرية المعتقد”، وأن المدرسة ينبغي أن تكون فضاءً مفتوحاً يحترم خصوصيات الطلاب الدينية، لا أن تتحول إلى ساحة لمنع الممارسات التعبدية.
أصوات مثقفين ومفكرين
الكاتب التونسي وليد أحمد الفرشيشي قدّم قراءة مختلفة، إذ رأى أن “المعاهد والجامعات فضاءات مخصصة للدراسة فقط”، لافتاً إلى أن “كل حي في تونس تقريباً يحتوي على مسجد، على عكس المكتبات أو دور السينما وفضاءات الترفيه”. واعتبر أن إصرار الطلاب على أداء الصلاة داخل المؤسسة التعليمية “يمثل تجاوزاً يستوجب إجراء تأديبياً”، موضحاً أنه مع حرية العبادة “لكن في أماكنها الطبيعية المخصصة لها”.
في المقابل، انتقد أساتذة وباحثون ما وصفوه بـ”المبالغة في تأويل الحادثة”، معتبرين أن تخصيص زاوية صغيرة داخل المؤسسات التعليمية للصلاة لا يتعارض مع الحياد، بل يساهم في احتواء التلاميذ وتجنب تحويل الموضوع إلى مواجهة بين الأجيال.
جدلية الحرية والحياد
تونس، التي لطالما قدّمت نفسها كواحة للحريات الفردية في المنطقة، تجد نفسها اليوم أمام معادلة حساسة: كيف يمكن التوفيق بين حرية المعتقد التي يضمنها الدستور، وحياد المدرسة العمومية الذي يعد أحد أسس النظام التعليمي منذ إصلاحات ما بعد الاستقلال؟
ففي حين يرى البعض أن ممارسة الشعائر داخل المؤسسات التعليمية قد يفتح الباب أمام “تسييس” أو “تديين” المدرسة، يعتقد آخرون أن رفض هذه الممارسات يمثّل مساساً مباشراً بحرية شخصية لا تؤثر على سير العملية التعليمية.

أبعاد اجتماعية أعمق
بعيداً عن المشهد اللحظي، تكشف هذه الحادثة عن صراع أوسع داخل المجتمع التونسي، بين تيارين: أحدهما يطالب بتشديد الفصل بين الدين والمجال العام حفاظاً على مدنية الدولة، والآخر يدعو إلى احترام الممارسات الدينية كجزء من الهوية الوطنية.
كما يرى محللون أن هذا الجدل ليس معزولاً عن سياقات أوسع، تتعلق بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها تونس بعد 2011، حيث تزايدت النقاشات حول مكانة الدين في الحياة العامة، وسط محاولات دائمة لإيجاد توازن بين متطلبات الحداثة واحترام الموروث الثقافي والديني.
ماذا بعد؟
حتى اللحظة، لم يصدر بيان رسمي من وزارة التربية التونسية يوضح موقفها من الواقعة الصلاة، وهو ما زاد من اتساع دائرة الجدل، إذ طالب البعض بضرورة إصدار تعليمات واضحة تحسم المسألة وتضع إطاراً محدداً لمثل هذه الحالات داخل المدارس والمعاهد.
ويرى خبراء أن الحل قد يكمن في وضع لوائح داخلية مرنة تسمح بممارسة الشعائر والصلاة في أوقات محددة ودون تعطيل الدروس، وفي أماكن مخصصة، بما يضمن احترام الحريات الفردية مع الحفاظ على حياد المؤسسة التعليمية.
سواء اعتُبر الأمر تجاوزاً أو حقاً مشروعاً، فإن حادثة معهد الحمامات سلطت الضوء على واحدة من القضايا الحساسة في تونس اليوم: حدود الحرية الدينية في الفضاء العمومي، ودور المدرسة كفضاء جامع محايد.
وبينما يواصل التونسيون نقاشهم المحتدم حول الواقعة، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل ستتجه الدولة نحو مزيد من التشدد في تطبيق حياد المؤسسات التعليمية، أم ستبحث عن حلول وسطية تضمن حرية التلاميذ دون أن تمس بمكانة المدرسة كمنبر للعلم والمعرفة؟
