بريطانيا – السابعة الإخبارية
أبل.. في ظل تصاعد التوتر العالمي بين الحكومات وشركات التكنولوجيا حول قضايا الخصوصية والأمن القومي، تجددت المخاوف بشأن مستقبل البيانات المشفّرة للمستخدمين، وذلك بعد أن امتنعت شركة “جوجل” عن الإفصاح عمّا إذا كانت قد تلقت طلبًا سريًا من الحكومة البريطانية يجبرها على فتح “باب خلفي” لأنظمتها الأمنية.
يأتي ذلك في أعقاب تقارير تفيد بأن شركة “أبل” نفسها خضعت لمحاولات مماثلة، ما أعاد النقاش حول حدود السلطة الحكومية في مواجهة حق الأفراد في الخصوصية.

تحت الضغط.. ومواجهة قضائية معلنة
تفاصيل القضية بدأت عندما كشفت صحيفة واشنطن بوست، مطلع هذا العام، عن أن وزارة الداخلية البريطانية سعت لاستصدار أمر سري من “محكمة المراقبة” بالمملكة المتحدة، لإجبار شركة “أبل” على منحها حق الوصول الكامل إلى النسخ الاحتياطية المشفّرة الخاصة بمستخدمي أجهزة iPhone وiPad، سواء داخل بريطانيا أو خارجها. هذا الطلب أثار ضجة كبيرة، خاصة وأن أبل تعتمد في سياساتها الأمنية على مبدأ “التشفير من طرف إلى طرف”، والذي لا يسمح حتى للشركة نفسها بالوصول إلى البيانات الخاصة بالمستخدم.
وعلى الفور، تقدمت أبل بطعن قانوني ضد الطلب البريطاني، مؤكدة أن تنفيذ هذا الأمر ليس فقط مستحيلًا تقنيًا دون إعادة تصميم جوهر أنظمتها، بل ويعد تهديدًا عالميًا لخصوصية مليارات المستخدمين.
جوجل تلوذ بالصمت القانوني
وفي تطور آخر، وجه السيناتور الأمريكي رون وايدن، عضو لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، رسالة إلى مسؤولة الاستخبارات الأمريكية، تولسي جابارد، طالب فيها بتقديم تقييم حكومي رسمي بشأن المخاطر التي قد تشكلها القوانين البريطانية الجديدة على الأمن القومي الأمريكي، خصوصًا بعد تداول تقارير حول طلبات بريطانية سرية وصلت لشركات تكنولوجيا أمريكية، منها “جوجل” و”ميتا”.
وايدن أشار إلى أن شركة “ميتا”، المالكة لتطبيقات WhatsApp وMessenger، نفت تلقيها أي طلب مماثل، لكن “جوجل” رفضت تأكيد أو نفي الأمر. واكتفت بالإشارة إلى أن القوانين البريطانية تحظر على الشركات التصريح بتلقيها مثل تلك الأوامر، وهو ما فسره البعض بأنه إقرار ضمني بوجودها.
وفي بيان مقتضب لموقع TechCrunch، قال المتحدث باسم “جوجل”، كارل رايان:”لم نقم مطلقًا بإنشاء أي آلية أو ‘باب خلفي’ لتجاوز التشفير من طرف إلى طرف في أي من منتجاتنا، وإذا قلنا إن منتجًا ما مشفّر من طرف إلى طرف، فنحن نعني ذلك بكل دقة”.
إلا أن البيان تجنب الرد بشكل مباشر على ما إذا كانت الشركة قد تلقت بالفعل أمرًا سريًا مماثلًا.

قوانين الرقابة البريطانية تحت المجهر
المملكة المتحدة، التي تُعرف بتشريعاتها الأمنية المشددة، كانت قد أقرت خلال السنوات الماضية سلسلة قوانين تمنح أجهزة الأمن والاستخبارات صلاحيات واسعة في الوصول إلى بيانات المستخدمين، بما في ذلك “قانون صلاحيات التحقيق” الذي يُعرف إعلاميًا بـ”ميثاق المتطفل”.
ويُلزم هذا القانون شركات التكنولوجيا التي تقدم خدمات داخل المملكة المتحدة بالامتثال لأوامر سرية تُعرف بـ”الطلبات التقنية”، والتي قد تشمل فك التشفير، أو تقديم مفاتيح الوصول إلى البيانات، وحتى تعديل البنية التقنية للمنتجات لتسهيل المراقبة.
إحدى الإشكاليات الأبرز في هذه القوانين أن الشركات المشمولة بها لا يُسمح لها بالإفصاح عن تلقيها مثل هذه الطلبات، ما يجعل من الصعب التحقق من مدى التزام أو معارضة الشركات لهذه الأوامر.
توازن هش بين الأمن والخصوصية
يثير هذا الجدل المتصاعد تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة الأفراد على حماية خصوصيتهم في عصر تُهيمن فيه الحكومات على تشريعات البيانات، في مقابل ضغط متزايد على الشركات التي تحاول أن توازن بين الامتثال القانوني ووعودها للمستخدمين.
ويرى خبراء الأمن السيبراني أن فتح “باب خلفي” لأي جهة حكومية، حتى ولو بدوافع مكافحة الإرهاب أو الجريمة، يُمثل خطرًا وجوديًا على نظام التشفير بالكامل. إذ ما إن يتم كسر حلقة التشفير، تصبح البيانات عرضة للاختراق من أطراف أخرى، بما في ذلك القراصنة، أو حتى حكومات أجنبية.
مخاوف عالمية وردود فعل حقوقية
وقد حذرت منظمات حقوقية دولية، مثل منظمة العفو الدولية و”هيومن رايتس ووتش”، من مغبة استخدام القوانين الأمنية لتقويض خصوصية الأفراد تحت ذريعة الأمن القومي. واعتبرت هذه المنظمات أن الأنظمة القانونية مثل تلك المعتمدة في بريطانيا تهدد بحرمان المواطنين من أبسط حقوقهم في عالم رقمي يزداد ترابطًا وتعقيدًا.
إلى أين يتجه المشهد؟
بين صمت الشركات، وغموض المواقف الحكومية، تظل خصوصية المستخدم في مرمى التقاطع بين القانون والتكنولوجيا. وقد تجد الشركات الكبرى نفسها في موقف لا تُحسد عليه: فإما الانصياع لأوامر سرية تهدد خصوصية العملاء، أو مواجهة عقوبات قانونية قد تُهدد وجودها في أسواق رئيسية.
وبين هذا وذاك، تبقى الحقيقة المؤكدة أن عصر التشفير المطلق يواجه اختبارًا عسيرًا، قد يُعيد رسم حدود الخصوصية العالمية لعقود قادمة.
