الذكاء الاصطناعي .. في تطور يسلط الضوء على حدود الذكاء الاصطناعي في القطاع الطبي، كشفت دراسة حديثة، عُرضت في المؤتمر الأوروبي لطب الطوارئ المنعقد في فيينا، أن الأطباء والممرضين يتفوقون على أدوات الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا نماذج المحادثة الذكية مثل “شات جي بي تي”، في مهمة فرز المرضى بقسم الطوارئ.
وأكدت نتائج الدراسة، التي أُجريت في جامعة فيلنيوس بليتوانيا، أن العامل البشري ما زال يشكل الركيزة الأساسية في التقدير الدقيق لحالة المرضى عند دخولهم الطوارئ، وهو أمر محوري في إنقاذ الأرواح وتقديم الرعاية المناسبة في التوقيت المناسب.
الذكاء الاصطناعي: أداة مساعدة لا بديلًا مستقلاً
الدراسة، التي قدمتها الدكتورة ريناتا جوكنيفيسين من جامعة فيلنيوس، ركزت على مدى دقة الذكاء الاصطناعى في تصنيف الحالات الطبية الطارئة مقارنة بقرارات الفرق الطبية البشرية. وأوضحت جوكنيفيسين أن الذكاء الاصطناعي “قد يكون أداة داعمة مفيدة عند استخدامه بالتكامل مع الطاقم الطبي، لكنه لا يصلح كأداة مستقلة لاتخاذ قرارات الفرز في أقسام الطوارئ”.
ويكتسب هذا النقاش أهمية متزايدة في وقت تتسابق فيه المستشفيات والأنظمة الصحية حول العالم لتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في مهام مختلفة، من التشخيص إلى إدارة البيانات، وصولًا إلى دعم اتخاذ القرار السريري.
تجربة واقعية على بيانات طبية
وللوصول إلى نتائج دقيقة، استعان الباحثون بمجموعة من الأطباء والممرضات العاملين في مستشفى سانتاروس كلينيكوس الجامعي في فيلنيوس. وقد طُلب من المشاركين تصنيف 110 حالة سريرية تم اختيارها عشوائيًا من قاعدة بيانات PubMed الطبية الشهيرة، وفقًا لنظام مانشستر لفرز حالات الطوارئ، الذي يقسّم المرضى إلى خمس فئات بحسب مدى إلحاح حالتهم.
في المقابل، تم تحليل الحالات ذاتها باستخدام النسخة 3.5 من نموذج الذكاء الاصطناعي شات جي بي تي، وهو أحد أبرز أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي المتاحة حاليًا.
تفوق بشري في الدقة والحساسية
عند مقارنة النتائج، أظهرت الدراسة أن الذكاء قد سجل دقة إجمالية في التصنيف بلغت 50.4%، في حين بلغت الدقة لدى الممرضات 65.5%، ولدى الأطباء 70.6%، مما يؤكد تفوق العنصر البشري، خاصة في الحالات التي تتطلب قراءة سريرية دقيقة وسريعة.
أما في ما يخص الحساسية – أي قدرة النموذج على تحديد الحالات الحرجة بدقة – فقد كانت النسبة الأدنى أيضًا من نصيب الذكاء الاصطناعي عند 58.3%، مقارنة بـ 73.8% لدى الممرضات، و83.0% لدى الأطباء.
مفاجأة في الحالات شديدة الخطورة
لكن المفاجأة جاءت من أداء الذكاء في الفئة الأولى من التصنيف، والتي تمثل الحالات الأكثر إلحاحًا والأشد خطورة. ففي هذا النوع من الحالات، تفوق الذكاء الاصطناعي على الممرضات من حيث الدقة والخصوصية، إذ سجل دقة بلغت 27.3% مقارنة بـ 9.3% للممرضات، وخصوصية بنسبة 27.8% مقابل 8.3%.
وتُظهر هذه النتائج أن الذكاء الاصطناعي قد يكون فعالًا في تحديد الحالات التي تُهدد الحياة فعلًا، ما يُعد نقطة انطلاق مهمة لتطويره في هذا الاتجاه، لكن الفجوة بينه وبين الأطباء تظل كبيرة.
الأداء في الحالات الجراحية وغير الجراحية
أظهرت الدراسة أيضًا تفوق الأطباء في تصنيف الحالات التي تتطلب تدخلاً جراحيًا أو علاجًا دوائيًا معقدًا. فقد سجل الأطباء نسبة دقة بلغت 68.4% في مثل هذه الحالات، مقارنة بـ 63% للممرضات، في حين لم تتجاوز دقة الذكاء الاصطناعي 39.5%، وهو ما يسلط الضوء على محدودية فهم النموذج للسياق الجراحي والقرارات الطبية المعقدة.
توصيات وملاحظات ختامية
توصي الدكتورة جوكنيفيسين بعدم الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي في البيئات السريرية الحساسة، خاصة في أقسام الطوارئ، حيث تُعد سرعة ودقة اتخاذ القرار عاملين حاسمين في حياة المرضى.
ورغم التحسينات الكبيرة في قدرات الذكاء الاصطناعي، إلا أن الخبرة السريرية، والتفاعل الإنساني، والقدرة على قراءة الأعراض ضمن سياقها الفعلي، تبقى عناصر لا يمكن للآلات محاكاتها بدقة حتى الآن.
وتدعو الدراسة إلى مواصلة تطوير نماذج الذكاء الاصطناعى لتعمل جنبًا إلى جنب مع الطواقم الطبية، وليس كبديل عنها، مع ضرورة إجراء المزيد من الدراسات على نطاق أوسع يشمل حالات حقيقية في أقسام طوارئ متعددة حول العالم.

الذكاء الاصطناعي في الطب: شريك واعد ولكن بشروط
في الوقت الذي يشهد فيه القطاع الطبي تطورًا سريعًا في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، تؤكد هذه الدراسة أن الآلة لا تزال بحاجة إلى الكثير من التعلم لتصل إلى مستويات الأطباء والممرضين في البيئات الحساسة مثل الطوارئ.
ورغم أن الأفق يبدو واعدًا، إلا أن الحكمة الطبية لا تزال في يد الإنسان، على الأقل في المستقبل المنظور.