لبنان – السابعة الاخبارية
زياد الرحباني، زياد الرحباني ذلك الاسم الذي شكل وجدان أجيال بكاملها، رحل عن عالمنا، تاركًا وراءه إرثًا فنيًا لا يُقدَّر بثمن، ومسرحًا مليئًا بالدهشة والسخرية والصدق. في مشهد مهيبٍ خيّم عليه الحزن العميق، ودّع لبنان صباح الاثنين أحد أعمدته الثقافية، خلال جنازة حاشدة أُقيمت في كنيسة رقاد السيدة في بلدة المحيدثة – كفيا، شمال شرق بيروت، وسط حضور فني وجماهيري ورسمي واسع.
لم يكن وداع زياد مجرد جنازة، بل لحظة وطنية جامعة، اختلط فيها الحزن بالاعتزاز، واسترجع فيها اللبنانيون والعرب محطات من تاريخ طويل من الإبداع والتجديد. ذلك الفتى الذي تربى في كنف السيدة فيروز وعائلة الرحابنة العريقة، لم يكتفِ بتكرار الألحان ولا بإعادة المجد القديم، بل اختار أن يشق طريقه الخاص، فكان فنانًا حرًا، متمردًا، وصادقًا إلى أقصى الحدود.
زياد الرحباني يرحل لمثواه الأخير وعائلة الرحابنة في وداع ابنها المختلف
في مقدمة الحضور، برزت الفنانة هدى حداد، شقيقة السيدة فيروز، التي بدت متأثرة بغياب زياد، الذي لم يكن فقط ابنًا عزيزًا على قلب العائلة، بل ركيزة فنية نادرة جمعت بين الإرث والتجديد. كما حضرت شخصيات بارزة من عائلة الرحابنة، من بينهم أولاد عم والده عاصي، وهم: أسامة وغدي ومروان، إلى جانب غسان الرحباني، في مشهد عائلي جمع شتات الخلافات حول المصاب الجلل.
فيروز… صمت يوجع أكثر من الكلمات
السيدة فيروز، أم زياد، اختارت كعادتها الصمت، لكنها كانت حاضرة بقوة في كل لحظة من لحظات التشييع. نظراتها وحدها كانت كفيلة بنقل حزن أم فقدت ابنها ورفيق دربها الفني والإنساني. لحظة مؤثرة جدًا خيّمت على الكنيسة حين اقتربت الفنانة كارمن لبس من فيروز، منهارة بالبكاء، واحتضنتها مواسية، في مشهد عكس حجم الخسارة التي يشعر بها المحبّون.
كارمن، التي عايشت زياد عن قرب، عبّرت عن وجعها بكلمات مختنقة، وقالت: “كان صديقًا ومعلمًا وصوتًا للناس الذين لا صوت لهم. رحل زياد، لكن موسيقاه ستبقى تنبض في شوارع بيروت ومقاهيها”.
حضور رسمي… ورسالة تقدير
جنازة زياد لم تكن مجرّد مراسم دينية، بل محطة وطنية، حرص على حضورها العديد من الشخصيات الرسمية في الدولة اللبنانية. من بين الأبرز، حضرت السيدة الأولى نعمت عون، زوجة الرئيس اللبناني جوزيف عون، التي تقدّمت واجب العزاء باسم الدولة اللبنانية، في رسالة واضحة بأن زياد لم يكن فقط فنانًا، بل رمزًا من رموز الهوية الثقافية اللبنانية.
كما حضرت السيدة رندة بري، زوجة رئيس مجلس النواب نبيه بري، في لفتة رسمية أيضًا تعبّر عن التقدير السياسي والثقافي للرجل الذي طالما انتقد السلطة وأوجاع الناس، لكنه كان ضميرًا حيًا لا يُمكن تجاهله.
الفنانون يودّعون صاحب “بالنسبة لبكرا شو؟”
الساحة الفنية بدورها حضرت بكثافة لتوديع “المشاغب الجميل”. من الجيلين القديم والجديد، اجتمع الفنانون في كنيسة المحيدثة، حاملين معهم ذكريات من مسرحيات زياد، من “فيلم أميركي طويل” إلى “بالنسبة لبكرا شو؟”، و”شي فاشل”، و”نزل السرور”.
رُصد حضور فنانين كبار من لبنان والعالم العربي، من بينهم هيفاء وهبي، نجوى كرم، مايا دياب، مارسيل خليفة، جوليا بطرس، هبة طوجي، جورج شلهوب، طارق تميم، ريتا حايك، كارول سماحة، راغب علامة، ماجدة الرومي، والفنانة التونسية لطيفة، وغيرهم. جميعهم وقفوا في صفوف العزاء، يشهدون على خسارة رجل لم يكن فنانًا عاديًا، بل ثورة ثقافية فكرية موسيقية كاملة.
بين السياسة والشعر… وفاء الكبار
ومن بين من حضروا أيضًا، المصمم اللبناني العالمي إيلي صعب، والفنان زياد سحاب، كما كان لافتًا حضور الشاعر الكبير طلال حيدر، الذي رغم تقدّمه في السن، حرص على التواجد مستندًا إلى أصدقائه، وقال عند خروجه: “زياد لم يكن فقط موسيقيًا، بل ضميرًا فنيًا حيًا. نحن اليوم لا نودّع شخصًا، بل زمنًا كاملاً من الوعي والاختلاف”.
الرحباني… الذي اختار أن يكون خارج القطيع
منذ بداياته، اختار زياد أن يكون مختلفًا، أن يقول ما لا يجرؤ الآخرون على قوله، أن يُغني عن الفقر والوطن والمقهورين، لا عن الغرام والعصافير فقط. في عز سنوات الحرب الأهلية، قدّم أعمالًا مسرحية وموسيقية شكلت مرآة لواقع لبنان، وسخر من الجميع دون استثناء، لأن انحيازه كان دائمًا للناس، للبسطاء، ولحلمه بدولة عادلة ومجتمع حيّ.
لم يكن زياد يحب الأضواء، ولم يلاحق الجوائز. اختار العزلة حين شعر أن ما من أحد يستمع حقًا، لكنه ظل في وجدان الناس حيًا، بأعماله، بضحكته الساخرة، بنوتاته التي تشبه دقات قلب لبنان.
إرث لا يُدفن
مع رحيل زياد الرحباني، يخسر لبنان واحدًا من أجرأ الأصوات، لكن يبقى إرثه حاضرًا. ستظل مسرحياته تُعرض، وأغنياته تُسمع، وكلماته تُردَّد في المظاهرات والمقاهي والجلسات الحميمة.
لقد قال يومًا: “أنا ما بشبه حدا، وما بدي حدا يشبهني”. وقد صدق. كان زياد بصمته الخاصة، بتمرده، بحنانه المخبّأ خلف قسوة العبارة، وبقدرته الاستثنائية على جعلنا نضحك من الألم.
وداعًا زياد. ستبقى صوت الحقيقة، وحنينًا لن يتكرّر.