لبنان – السابعة الإخبارية
فيروز.. في مشهد اختلطت فيه الموسيقى بالحزن، والهيبة بالدموع، أطلت أيقونة الغناء العربي فيروز، اليوم الاثنين، في ظهور نادر خلال مراسم تشييع نجلها زياد الرحباني، التي أقيمت أمام كنيسة “سيدة الرقاد” في بلدة بكفيا، بمحافظة جبل لبنان. كانت اللحظة استثنائية بكل المقاييس؛ ليس فقط لأنها كسرت صمت السيدة التي لطالما اعتزلت الأضواء، بل لأنها وضعت العالم العربي كله أمام حقيقة موجعة: النهاية الحتمية لعبقرية اسمها زياد.
فيروز.. حضور يجلل المكان بالصمت
بلغت الفنانة الكبيرة فيروز عامها التسعين، لكنها اليوم بدت أكثر حضورًا من أي وقت مضى، وهي تنزل من السيارة وتخطو ببطء نحو الكنيسة، يدها تمسك بيد ابنتها ريما، وخطواتها تحمل أكثر من معنى. لم تكن مجرد أم تودع ابنها، بل كانت فيروز، السيدة التي غنّت للسماء والقدس وبيروت، تواجه الموت وجهاً لوجه، أمام جثمان ابنها الذي كان عصارة وجعها وأملها معًا.
دخلت الكنيسة وسط صمت مهيب من الحضور، وجلست أمام النعش بخشوع الأمومة وألم العمر الطويل، في لحظة جسّدت وجع الأمهات جميعًا، وبدت بصحة أفضل مما أشيع، رغم أن المصاب كان كفيلًا بإسقاط الجبال.

غياب زياد… رحيل العقل المتمرّد
في الأول من يناير عام 1956، وُلد زياد الرحباني في بيت لا يُشبه أي بيت. هو ابن فيروز، الأسطورة التي شكّلت وجدان العرب، وعاصي الرحباني، أحد أعمدة الموسيقى الحديثة في لبنان. لكن زياد، وعلى عكس المتوقع، لم يسلك طريق الوراثة الفنية فقط، بل خرج من عباءة البيت الرحباني ليبني عالمه الخاص، عالمًا فيه من السخرية قدر الألم، ومن الموسيقى قدر الثورة.
غاب زياد السبت الماضي عن عمر 69 عامًا، بعد مسيرة فنية امتدت لأكثر من نصف قرن. لم يكن مجرد موسيقي أو كاتب مسرحي، بل كان صوتًا عميقًا لحياة اللبنانيين، مرآة صادقة لقلقهم السياسي والاجتماعي. مزج بين الجاز والإيقاع الشرقي، بين الألم والسخرية، وصنع من الموسيقى مساحات للتفكير والتمرد، حتى غدت أعماله تمثل حالة ثقافية يصعب تكرارها.
من “سألوني الناس” إلى “أنا مش كافر”
في سن السابعة عشرة فقط، قدّم زياد أولى هداياه للغناء العربي، عندما لحّن أغنية “سألوني الناس” لوالدته فيروز أثناء مرض والده. كانت تلك اللحظة المفصلية بداية نبوغه. تبعتها أعمال مشتركة مثل “كيفك إنت” و”في أمل”، التي مثلت نقلة نوعية في تجربة فيروز نفسها، من الطابع الكلاسيكي إلى مساحات أكثر وجعًا وواقعية.
في أعماله الخاصة، خاصة الألبوم الشهير “هدوء نسبي”، قدّم موسيقى تنطق بالقلق الداخلي والاضطراب المجتمعي. أما أغنيته الأشهر “أنا مش كافر”، فكانت مانيفستو كاملًا لفلسفته الإنسانية:
“أنا مش كافر… بس الجوع كافر، والذل كافر، والمرض كافر.”
عبارة وحيدة عبّرت عن مئات الصفحات التي كتبها بآلة البيانو والميكروفون والمسرح.
مسرح الوجع… ومرآة الحرب
شكّل المسرح السياسي مساحة مركزية في تجربة زياد الرحباني، خاصة خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية. من “سهرية” و”نزل السرور” إلى أعماله الخالدة مثل “بالنسبة لبكرا شو؟” و”فيلم أميركي طويل”، استخدم زياد المسرح كمنصة لتعرية الواقع اللبناني، ساخراً، ناقداً، رافضاً التزييف السياسي والطائفي.
في “فيلم أميركي طويل”، على سبيل المثال، حوّل مستشفى للأمراض العقلية إلى رمز مكثّف للبنان الممزق. وفي كل مسرحية، كانت شخصياته تنبض بلحم الناس، وتتحدث بلسان الشارع، لكن بلغة فنية راقية، تُضحك وتبكي في آن.

اليساري الأخير… والمثقف العنيد
لم يكن زياد مجرد فنان، بل كان مثقفًا عضويًا بالمعنى الغرامشي للكلمة. لم يتخلّ عن أفكاره رغم تقلّب الزمن السياسي. التزم بخط اليسار، دافع عن القضية الفلسطينية، وهاجم الطائفية اللبنانية من جذورها. في برامجه الإذاعية، خاصة “العقل زينة”، أظهر فكرًا نقديًا لاذعًا، وقدرة على التعبير بلغة الناس دون تسطيح أو تبسيط.
وظل حتى وفاته رمزًا للفنان الحر، الذي لا يخضع لإملاءات السوق، ولا لابتزاز الإعلام، ولا لمهادنة السياسة.
وداع بيروتي بصوت الصمت
مع إعلان وفاته، نعاه كبار المسؤولين والمثقفين اللبنانيين. رئيس الوزراء نواف سلام كتب: “بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فنانًا استثنائيًا وصوتًا حرًا ظل وفيًا لقيم العدالة والكرامة”. فيما قالت الممثلة كارمن لبّس، التي كانت رفيقته الفنية والعاطفية لفترة: “أشعر وكأن كل شيء انتهى، وكأن لبنان بات فارغًا”.
لكن المشهد الأكثر بلاغة، كان صورة فيروز أمام جثمان زياد، لا تتكلم، فقط تصغي بصمتها. وكأنها تدرك أن الموسيقى وحدها لا تستطيع الآن أن تُنقذ القلب من الانكسار.
هكذا ودّع لبنان، وربما العرب، أحد آخر العقول الحرّة، في جنازة لم تكن تشييعًا لجسد، بل لزمن كامل اسمه: زياد الرحباني.
