إلى روح الإنسان الأخير .. زياد الرحباني #إليك يا زياد
لم تمت وحيداً لأنك بلا أحد… بل مت وحيداً لأنك لا تريد أحداً..
أنا ابن قرية نائية وراء جبال اليمن، لا يذكرها حتى الغيم في طريقه،
ولا يراها أحد من شاشات الأقمار الصناعية إلا إذا كانت الشمس كريمة بما يكفي لتميل قليلًا وتكشف عنها.
وأنت يازياد ابن ضيعة على أطراف بيروت، حيث الحزن يخرج مع الخبز من الأفران، وحيث الوحدة لا تحتاج إلى مناسبة كي تزورك.
البيوت عندنا يازياد من طين، لكن الحكايات أكثر صلابة من الجدران، والهواء نقي لدرجة أنك تسمع خطوات وحدتك فيه.
في التسعينات، كنتُ هناك، صغيراً، أسمع صوت فيروز يتسلل من الباصات الذاهبة إلى المدارس، ومن محلات التسجيلات التي كانت تبيع لنا الأمل على شكل كاسيتات.
لم أكن أعرف أن يدك كانت خلف كثير من تلك الألحان،
لم أكن أعرف أنك كنتَ ترسل لي رسائل موسيقية مشفّرة لتقول: “انتبه يا أحمد… الحياة ليست كما تراها من نافذة الباص. احترس إنها تضع فخاخها في أجمل الأزقة.
مرت سنوات، غادرت قريتي، ثم جاء 2008، وتركت المدينة سافرت خفيفاً بلا أحد.. صرتُ أتنقل بين بلدان لا أتذكر أسماء سكانها،
كنت تقطع شارع الحمرا بيروت كأنك تمشي إلى وطن لا مكان فيه لك.
تحمل تعبك على كتفك وتقرأ وجوه المارة كأنك تراجع مسرحية فاشلة..
في الوقت الذي كنت أنا أصعد الجبل كي أرى حزني بوضوح أكثر من الأعلى.
وهناك، في الغربة، وجدتُك تنتظرني على الطاولة القريبة من النافذة، بكوب قهوة بارد، وابتسامة ساخرة تقول: “تعال… سنضحك على هذا العالم قليلاً قبل أن يضحك علينا.”
يا زياد، تعرف ما هو الغريب؟ أن الوحدة في الوطن تشبه الوحدة في الغربة، الفرق الوحيد أن الغربة تمنحك منظراً أجمل لتشاهد حزنك.
تعرف ما هو الأغرب؟ أن الذين يغادرون، لا ينجون… فقط يتعلمون طريقة جديدة للانكسار.
سلام عليك يا زياد… أنت الذي كان يجرؤ أن يكون نفسه، في عالم يبيع كل شيء، حتى الملامح. حين عرضوا عليك زراعة كبد، رفضت… قلت لهم إن المشكلة ليست في الجسد، بل في الهواء الذي نتنفسه. كنت تريد وطنا جديداً ، زمناً نظيفاً ، حبا لا يصدأ. لكنك صمت، لأنك تعرف أن الطلب في هذا العالم مثل كتابة وصية في ورقة مبللة.
من بعدك، صار الوطن بلا لحن، وصارت ذاكرتنا بلا إيقاع، وصارت الضحكة عملاً شجاعاً في جنازة طويلة.
أنت الذي خانتك ثلاث نساء، ولم تخن مرة واحدة حزنك.
كان بإمكانك أن تصرخ، أن تلعن، أن تكره… لكنك كنت كلّما طُعنت، كتبت لقاتلتك لحناً.. أهديت الحبيبة الأولى “مربى الدلال”، رغم أنها أهدتك مرُ الغياب. وأهديت الثانية “بِحبّك بلّا ولا شي”، وأنت لم يبقَ لك منها شيء.
كان غرامك الأول إلى “ليلى”، الوحيد الذي لم تلوثه الخيانة فقد خبّأت اسمها كأنه آية حب ممنوعة، وأعطيتها سراً “ع هدير البوسطة”، وابتلعت اسمها واستبدلته ب “عليا” كي لا تسمعه العائلة في الشاي.
كلنا مثلك يازياد، فأنا أحببت الوطن مرة واحدة، فخانني ثلاث مرات.. مرة حين غادرت، ومرة حين حاولت العودة، ومرة حين اكتشفت أنه لم يفتقدني فيه أحد أصلًا.
في مطعمك المفضل بشارع الحمراء، نشروا لك صورة على فيسبوك.. قالوا أنك كنت تأكل البيتزا لوحدك.. فيما العيون كانت تراقب صمتك
لا صوت إلا حزنك البسيط.. وأنت ترى وجهك يلمع منه.. ولا صوت إلا كأس فقدك.. وأنت تضعه برفق على الصحن
فأنت الذي قلت يوماً يازياد أن الحزن لا يحتاج دموعاً بل طاولة في مقهى بارد، وضحكة تصل متأخرة مثل قطار خائف.
أعرف كما أنت تعرف بالضبط أن الخيانة ليست نهاية العالم، لكنها تغيّر هندسته، كما يغيّر أحدهم باب بيته ويخرج للضياع في الشارع ليخبره: أنا مفقود أكثر منك.
وكنتَ تقول بنغمتك المتهكمة: “الوطن يشبه بطانية قديمة… لا تدفئك، لكنها تغريك بأن تبقى تحتها.”
كنتَ تعرف أن الخراب لا يصرخ، بل يتسلل بهدوء، يبدّل أسماء الشوارع، يطلي القبور بألوان بهيجة، ويرش العطور في المآتم.
موتك يا زياد كان جملة قصيرة في الأخبار، بلاموسيقى، بلا صراخ… كما تموت المدن في التقارير الباردة.
كنت بسيطاً، عميقاً، زاهدا ،نقيا، قلت أن البسيط، متى عرف أنه بسيط، لم يعد بسيطاً”، فلم تكن بسيطاً قط، بل كنت رصيفاً يتكئ عليه البسطاء حين تتعب أرواحهم.
رحلت يا زياد. ولم تأخذ معك ثروة، ولا أوسمة، ولا ميداليات. مت في عزلة صامتة، بعدما أنهك جسدك المرض، لكنك لم تستدن الحياة، ولم تستعِر كبداً، فمن لم يرضَ بفتات القلوب، لا يقبل أن يكمل لحن عمره بكبدٍ مستعار.
بعدك يازياد.. صارت الذاكرة بلا موسيقى، والحياة بلا ذريعة.. نضحك ونحن نعرف أننا سنبكي بعد قليل.
قلتَ مرة: “الضحك أحسن من الانتحار”، ثم أشعلت سيجارة وكأنك تفاوض القدر على جرعة حياة إضافية.
كنت تعرف أن السخرية ليست علاجاً، بل مسكنّاً…
لكنها المسكّن الوحيد الذي يجعلنا نحتمل أن نكمل.
من قال إن الوحدة لا تصرخ؟
من قال إن الحزن لا يلبس بذلة؟
من قال إن العباقرة لا يموتون من الجهة اليسرى من القلب؟
كنتَ صامتاً لكننا الآن نسمعك…
كما نبحث عن أغنيتنا الضائعة وسط ضجيج أنينك البارد.
كنتَ تعرف أن الضحك مثل رغيف الخبز… إن لم تأكله ساخناً صار قاسياً يجرح لثتك.
أعرف أنك لم تكن تريد حياة أطول… كنت تريد حياة أوضح.
لكننا اليوم نعيش في ضباب كثيف، كل يوم يشبه الآخر، حتى الحزن صار بنكهة مصنعة، وحتى الفرح يأتي مع فاتورة مرفقة.
ربما كنتَ محقا حين قلت: “أفضل أن أكون جملة ساخرة في مسرحية رديئة، على أن أكون بطلا في فيلم دعائي طويل”.
سلام عليك يا زياد، سلام على حزنك الذي كان أذكى من فرح الآخرين.
حين ودّعتك أمك فيروز، لم تبكِ…
ربما همست لك: “كيفك إنت؟ قالوا إنك مت…”
لكنها لم تنتظر الجواب.
الأمهات يعرفن أن أبناءهن يردون ولو من تحت التراب.
اليوم، يا زياد، بيروت تزداد صمماً، وقريتي تزداد عمى.
المدن صارت أسرع من الحزن، والناس صاروا أسرع من الذاكرة،
لا صوت فيروز في الصباح، ولا صوتك في المقاهي،
والأغاني التي كانت تنجو من الغبار في قريتي، لا تصمد الآن أكثر من أسبوع قبل أن تبتلعها الضوضاء.
لكنني مازلت أسمعك… في ” بترجع الصورة أنا وياك”
كأنك كنت أنا… وأنا أنت… في زمن لا ينجو فيه إلا من تظاهر بالنسيان.
سلام عليك يازياد… من سيلحن وداعك الآن
“كيفك إنت” هل حقاً مت يا آخر من يشبه الإنسان.
أحمد النجار- صحفي وشاعر يمني مقيم في الإمارات
_____________________
#زياد #الرحباني
#فيروز
#ريما #الرحباني
__________________________________________