القاهرة، محمد الصو – السابعة الاخبارية
من هو داوود عبد السيد؟، غيب الموت المخرج المصري داوود عبد السيد عن عمر ناهز 79 عامًا، بعد صراع مع المرض، ليطوي برحيله فصلًا مهمًا من تاريخ السينما المصرية والعربية. ويُنظر إلى داوود عبد السيد باعتباره واحدًا من أبرز مخرجي السينما الواقعية والاجتماعية في جيله، وصاحب رؤية فنية خاصة جعلت أفلامه قريبة من الناس، ومعبرة عن همومهم وقضاياهم اليومية، بعيدًا عن السطحية أو الاستسهال التجاري، ونرصد من هو داوود عبد السيد؟.
برحيل داوود عبد السيد، فقدت السينما المصرية مخرجًا آمن بالفن كوسيلة للتفكير والسؤال، لا مجرد أداة للترفيه، وترك خلفه إرثًا سينمائيًا محدود العدد، لكنه بالغ التأثير.
من هو داوود عبد السيد؟ نشأته وبدايات الطريق
وُلد داوود عبد السيد في نوفمبر عام 1946، ونشأ في بيئة ثقافية مهتمة بالفن والمعرفة، وهو ما انعكس لاحقًا على اختياراته الفنية. التحق بالمعهد العالي للسينما، وتخرج فيه عام 1967، ليبدأ رحلته مع عالم الصورة والحكاية في وقت كانت فيه السينما المصرية تمر بتحولات فكرية وفنية كبيرة.
في بداياته، عمل داوود عبد السيد مساعد مخرج مع كبار صناع السينما في مصر، وشارك في أفلام مهمة مثل “الأرض” للمخرج يوسف شاهين، و“الرجل الذي فقد ظله” للمخرج كمال الشيخ. ورغم أهمية هذه التجربة، إلا أنه قرر مبكرًا عدم الاستمرار في مهنة مساعد الإخراج، وصرّح في أكثر من حوار أن هذه المهنة شاقة جدًا، وتستهلك طاقة المخرج في تفاصيل تنظيمية لا تمس جوهر الإبداع.
من السينما التسجيلية إلى عالم الأفلام الروائية
بدأ داوود عبد السيد مسيرته الإخراجية الحقيقية عبر الأفلام التسجيلية، التي شكلت حجر الأساس لرؤيته الواقعية. من بين هذه الأعمال:
“وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم” عام 1976،
“العمل في الحقل” عام 1979،
و“عن الناس والأنبياء والفنانين” عام 1980.
هذه الأعمال كشفت مبكرًا اهتمامه بالإنسان العادي، والعلاقة بين الفرد والمجتمع، وهي الثيمات التي سترافقه لاحقًا في أفلامه الروائية.

داوود عبد السيد ونجاح فيلم الصعاليك
شهد عام 1985 نقطة التحول الكبرى في مسيرته مع إخراج أول أفلامه الروائية الطويلة “الصعاليك”، من بطولة نور الشريف، محمود عبد العزيز، ويسرا. حقق الفيلم نجاحًا جماهيريًا ونقديًا كبيرًا، وناقش فكرة الصعود الطبقي والتحولات القيمية في المجتمع المصري من خلال قصة لصين يصعدان إلى قمة المجتمع.
لم يكن “الصعاليك” مجرد فيلم ناجح، بل إعلانًا عن ميلاد مخرج يمتلك لغة سينمائية مختلفة، تجمع بين العمق الفكري والجاذبية الدرامية.
أفلام داوود عبد السيد ورؤيته الفلسفية
توالت أعمال داوود عبد السيد خلال الثمانينيات والتسعينيات، وغالبًا ما كتب سيناريو أفلامه بنفسه، مؤمنًا بأن الرؤية الفنية لا تكتمل إلا بسيطرة المخرج على النص. وتمحورت أفلامه حول أسئلة فلسفية عميقة تتعلق بالحرية، والهوية، والسلطة، والاغتراب الإنساني.
من أبرز أفلامه:
“البحث عن سيد مرزوق”،
“الكيت كات”،
“سارق الفرح”،
“أرض الخوف”،
“مواطن ومخبر وحرامي”،
“رسائل البحر”،
“قدرات غير عادية”.
وتُعد أفلام مثل “الكيت كات” و“أرض الخوف” من العلامات الفارقة في تاريخ السينما المصرية، لما تحمله من عمق إنساني ورمزية فلسفية ظلت صالحة للنقاش عبر الزمن.
داوود عبد السيد والجوائز والتكريمات
حصد داوود عبد السيد خلال مسيرته عددًا كبيرًا من الجوائز والتكريمات داخل مصر وخارجها. نال فيلمه الأول “الصعاليك” جائزة تقديرية للعمل الأول، كما حقق فيلم “أرض الخوف” نجاحًا كبيرًا وحصل على عدة جوائز، من بينها الهرم الفضي وأفضل سيناريو.
كما تم اختيار عدد من أفلامه ضمن قوائم أهم الأفلام العربية، وتم تكريمه عن مجمل أعماله في أكثر من مهرجان سينمائي، تقديرًا لمساهمته في تطوير لغة السينما المصرية.
قرار الاعتزال وموقفه من الجمهور
في نهاية عام 2021، أعلن داوود عبد السيد اعتزاله الإخراج السينمائي، مؤكدًا أنه قدّم ما لديه، وأدى رسالته الفنية على مدار عقود. وأثار قراره وقتها حالة من الجدل والحزن في الأوساط السينمائية، خاصة أنه كان مخرجًا قليل الإنتاج، شديد الحرص على الجودة.
وكان داوود عبد السيد معروفًا بموقفه الصارم من مقولة “الجمهور عايز كده”، حيث كان يرى أن واجب الفنان الحقيقي هو احترام عقل الجمهور، لا مجاراته أو استسهال تقديم ما يطلبه السوق.

داوود عبد السيد… بصمة لا تُنسى
رحيل داوود عبد السيد لا يعني غياب اسمه عن الذاكرة، فالأفلام التي قدمها ستظل حاضرة كأعمال تُشاهد وتُناقش وتُعاد قراءتها. لقد قدّم سينما تحترم الإنسان، وتطرح الأسئلة بدلًا من تقديم الإجابات الجاهزة، وجعل من القضايا الاجتماعية والفلسفية مادة فنية راقية.
بذلك، يبقى داوود عبد السيد واحدًا من أهم المخرجين في تاريخ السينما المصرية، ومبدعًا اختار الطريق الأصعب، لكنه ترك أثرًا لا يُمحى.
