الأرجنتين – السابعة الاخبارية
نتفليكس، نجحت منصة نتفليكس مجددًا في خطف الأنظار من خلال عرض مسلسل “عالقات في الوحل” (En el barro)، الذي انطلق عرضه عالميًا في منتصف أغسطس 2025. العمل الأرجنتيني، المكوّن من 8 حلقات، لم يلبث أن بدأ حتى تصدّر قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة على المنصة، ليؤكد مرة أخرى قدرة نتفليكس على تقديم محتوى غير ناطق بالإنجليزية ينال إعجابًا عالميًا واسعًا.
ينتمي “عالقات في الوحل” إلى فئة دراما الجريمة، ويُعد امتدادًا لعالم مسلسل “إل مارجي” الشهير، لكنه لا يكرر قصته، بل ينطلق منه ليبني سردًا مستقلًا يرتكز على تجربة السجينات في بيئة قاسية، مع تسليط الضوء على مفاهيم التضامن، البقاء، وتحولات الهوية وسط العنف والإقصاء.
نتفليكس.. منصة التحوّلات الدرامية
ما يميز هذا العمل هو كونه مثالًا حيًا على الكيفية التي أصبحت بها نتفليكس مسرحًا لإعادة تقديم الأنواع الدرامية الكلاسيكية برؤية جديدة. فبعدما كان مسلسل “إل مارجي” قد رسخ أسلوبًا خاصًا في تقديم دراما السجون من منظور ذكوري قاسٍ، جاء “عالقات في الوحل” ليقلب الموازين، ويضع النساء في قلب المشهد، لا كضحايا فقط، بل كفاعلات أساسيات في سرد محمّل بالصراع والتحديات.
من خلال هذا التحوّل، تؤكد نتفليكس أنها ليست مجرد منصة بث، بل جهة إنتاج فاعلة تضع نفسها في موقع الشريك الإبداعي للمخرجين والمؤلفين، وتتيح لهم الحرية لتوسيع آفاق أعمالهم. وهذا ما ظهر بوضوح في الإنتاج العالي الجودة لـ”عالقات في الوحل”، الذي تميز بإخراج متقن، تصوير سينمائي غامر، وكتابة متماسكة توازن بين الحبكة والتطور النفسي للشخصيات.
قصة تتجاوز المكان والزمان
تبدأ أحداث المسلسل بحادث مأساوي خلال نقل مجموعة من السجينات إلى سجن جديد، حيث تتعرض الحافلة لحادث يغرقها في النهر. في مشهد رمزي يجمع بين النجاة والميلاد، تخرج خمس سجينات من الوحل بأجساد ملوثة وأرواح مثقلة، ويبدأن رحلة جديدة في سجن “لا كويبرادا” للنساء.
ما يميز هذا المدخل هو أنه لا يقتصر على الجانب المادي من السجن، بل يسلّط الضوء على التكوين النفسي للشخصيات، وعلى تحوّلات العلاقة بينهن. فبدلًا من الحكايات النمطية عن صراعات بين السجينات، يقدم العمل لحظات من الدعم المتبادل، التحالف، والانكسارات الشخصية، في سرد متوازن يعكس تعقيد التجربة النسائية في بيئة سجنية عنيفة.
وبينما تتعمق الحبكة، تظهر خطوط الفساد، صراعات النفوذ، والانقسامات الطبقية حتى داخل أسوار السجن. وكل ذلك يُعرض في إطار من الواقعية القاسية، التي لا تفرّق بين الجاني والضحية، بل تسائل النظام بأكمله.
بطولة جماعية وتنوّع شخصيات
يضم المسلسل طاقمًا نسائيًا بارزًا قدّم أداءً لافتًا في مختلف المستويات. ومع أن الشخصيات الخمس الرئيسية كنّ محور القصة، فإن التفاعل بينهن وبين شخصيات أخرى—من حراس، وسجينات سابقات، ومسؤولين داخل النظام السجني—أنتج شبكة معقّدة من العلاقات الإنسانية.
تتنوع الشخصيات بين امرأة شابة ارتكبت جريمة دفاعًا عن نفسها، وأخرى كانت ضحية تجارة بشرية، وثالثة ذات ماضٍ سياسي، ما يجعل كل شخصية تحمل قضايا مختلفة تمثّل شرائح من المجتمع، وتكشف عن الجوانب المتعددة لمعاناة النساء داخل وخارج السجون.
نتفليكس تصدّر القضايا المحلية إلى جمهور عالمي
ما فعله مسلسل “عالقات في الوحل” يتجاوز كونه دراما محلية ناجحة. بفضل نتفليكس، أصبح العمل متاحًا بأكثر من 30 لغة، مع ترجمة ودبلجة، ما أتاح له الانتشار في أسواق متعددة. بهذا، تتكرّس قدرة نتفليكس على تصدير القصص من دول أميركا اللاتينية أو أوروبا الشرقية أو آسيا، إلى جمهور لا يتحدث لغتها الأصلية، لكنّه يتفاعل معها بفضل قوة السرد وقرب الموضوعات من التجربة الإنسانية.
وبات واضحًا أن المنصة لا تسعى فقط إلى تقديم مسلسلات جماهيرية، بل تحرص أيضًا على إبراز أعمال تحمل رسائل اجتماعية وإنسانية عميقة، وتعطي الفرصة لفرق إنتاجية محلية لتقديم أعمال تضاهي المعايير العالمية من حيث الجودة والإخراج.
رؤية إخراجية مختلفة ونص ناضج
يعتمد المسلسل على إخراج سينمائي يتجنب الاستعراض، ويعتمد الواقعية كأداة لنقل التجربة، ما يعكس النضج الإخراجي في تصوير المشاهد القاسية والعاطفية على حد سواء. لا مجال هنا للمبالغة، بل لكل تفصيلة مكانها في الصورة والسرد، ما يمنح المتفرج تجربة بصرية ونفسية مكثّفة.
أما النص، فقد ابتعد عن الوعظ أو الخطاب المباشر، وفضّل تقديم التجربة كما هي: خامة إنسانية قابلة للتأويل، يتشابك فيها الذنب بالتعاطف، والعنف بالأمل، والانكسار بالقوة الداخلية.
ما بعد الموسم الأول
مع نهاية الموسم الأول، ترك المسلسل نهاية مفتوحة تشي بإمكانية مواصلة القصة. وقد أبدى جمهور واسع حول العالم ترقبه لأي إعلان عن موسم ثانٍ، في وقت أشارت فيه مصادر من داخل فريق العمل إلى نية التوسّع في عالم “لا كويبرادا” بمزيد من القصص النسائية العميقة والمعقدة.
نجاح العمل، جماهيريًا ونقديًا، يدفع باتجاه أن يكون “عالقات في الوحل” نموذجًا لأعمال أخرى قد تخرج من رحم أعمال سابقة، لكنّها تبني لنفسها طريقًا مستقلًا ومؤثرًا.
يثبت “عالقات في الوحل” أن منصة مثل نتفليكس قادرة على تحريك المشهد الدرامي العالمي نحو مزيد من التنوع والجرأة. فمن خلال هذا العمل الأرجنتيني، تمت إعادة تقديم دراما السجون من زاوية إنسانية ونسوية، لا تخلو من العنف، لكنها تحمل في طياتها نداءً صامتًا للعدالة، والمصالحة، والتحرر من القوالب النمطية.
ومع استمرار نتفليكس في الاستثمار في هذا النوع من الأعمال، يبدو أن المستقبل يحمل لنا مزيدًا من القصص التي تعبر الحدود، وتنطلق من واقع محلّي لتلمس مشاعر الناس في كل مكان.