تونس – السابعة الاخبارية
الفاضل الجزيري، غيب الموت صباح اليوم الإثنين، الموافق 11 أغسطس 2025، الفنان والمخرج والكاتب التونسي الفاضل الجزيري، عن عمر ناهز 77 عامًا، بعد صراع طويل ومرير مع المرض، خلّف خلاله إرثًا فنيًا وإنسانيًا لا يُنسى، ومكانة خاصة في قلوب محبيه والمتابعين للمشهد الثقافي التونسي والعربي.
وبرحيله، يُسدل الستار على أحد أبرز الأسماء التي ساهمت في تحديث المسرح التونسي والارتقاء به، وفتح آفاق جديدة للتعبير الفني من خلال السينما والموسيقى والتراث. لم يكن الفاضل الجزيري مجرد فنان، بل كان مشروعًا ثقافيًا متكاملًا، كرّس حياته للفنّ، واختار أن يكون صوتًا للإبداع والحرية والجمال.
الفاضل الجزيري وبدايات ثقافية في بيت يعشق الأدب والفن
وُلد الفاضل الجزيري في تونس العاصمة عام 1948، في بيئة ثقافية خصبة ساهمت في تشكيل وعيه الفني في سنّ مبكرة. كان والده من الوجوه المعروفة في الوسط الثقافي بالعاصمة، يعمل بائع كتب في منطقة باب سويقة، ويُدير في الوقت نفسه مقهى رمسيس ونزل الزيتونة، اللذين كانا ملتقى الأدباء والفنانين والمسرحيين، ما سمح للطفل الفاضل بالاحتكاك المباشر مع رموز الفكر والفن، وترسيخ حبه للمسرح والموسيقى منذ صغره.
نشأ في عائلة مثقفة، ودرس في المدرسة الصادقية، وهي من أعرق المؤسسات التعليمية في تونس، حيث انخرط في النشاط المسرحي، وبدأ يخطو أولى خطواته في عالم الإبداع، مستفيدًا من تكوينه الثقافي الواسع ومن رعاية عدد من كبار الفنانين والأساتذة.
المسرح الجديد.. بداية التحوّل في التجربة المسرحية التونسية
شهد عام 1976 ميلاد واحدة من أبرز التجارب المسرحية الحداثية في تونس، حين شارك الفاضل الجزيري في تأسيس فرقة “المسرح الجديد”، إلى جانب مجموعة من المسرحيين المؤثرين، من بينهم فاضل الجعايبي والحبيب المسروقي. وقد شكّلت هذه الفرقة نقلة نوعية في طبيعة النص المسرحي وأسلوب الإخراج والتفاعل مع قضايا المجتمع التونسي.
قدّمت “المسرح الجديد” أعمالاً رائدة لا تزال حاضرة في ذاكرة المتفرج التونسي والعربي، مثل “العرس” و**”غسالة النوادر”**، وهي عروض جمعت بين الواقعية الاجتماعية والتجريب الفني، وعكست بعمق واقع الطبقات المهمشة وقضايا الحرية والهوية.
الفن الشعبي والتراث الصوفي في أعماله الموسيقية
بعيدًا عن المسرح، كان للفاضل الجزيري عشق خاص للتراث الشعبي والموسيقى الصوفية، فجاءت أعماله الفنية الموسيقية كمرآة لذلك الشغف، حيث مزج بين التقاليد والحداثة في عروض ضخمة مثل “الحضرة” و**”النوبة”**، اللتين لاقتا نجاحًا جماهيريًا واسعًا محليًا وعالميًا.
مثّلت هذه العروض حالة فنية متفرّدة أعادت الاعتبار للأغنية الصوفية التونسية، وجعلتها مادة حيّة في قلب المسرح، مع المحافظة على طابعها الروحي والاحتفالي في آن واحد. وقدّم الجزيري من خلال هذه الأعمال تجربة فنية متعددة الأبعاد، جمعت بين الموسيقى، الرقص، المسرح، والضوء.
السينما.. رؤية بصرية للواقع والذاكرة
وفي مجال السينما، ترك الفاضل الجزيري بصمة واضحة من خلال أعمال وثائقية وروائية، عبّرت عن رؤيته العميقة للواقع التونسي ولتاريخ البلاد الثقافي والسياسي. من أبرز أفلامه “ثلاثون” (2007)، وهو عمل وثائقي استثنائي سلّط الضوء على رموز تونسية كبرى، واستعرض بأسلوب بصري جذاب مسارات نضال وتحوّل في البلاد.
لم تكن سينما الجزيري تقليدية أو ترفيهية، بل كانت سينما فكر وتحليل، وظّف من خلالها تقنيات السرد والرمز والوثيقة لتقديم خطاب ثقافي نقدي يهمّ الذاكرة الجماعية التونسية.
مركز الفنون في جربة.. دعم الإبداع في الجهات
ضمن قناعاته بأن الثقافة يجب أن تكون في متناول الجميع، وليس فقط نخب العاصمة، أسس الفاضل الجزيري “مركز الفنون” في جزيرة جربة، ليكون منصّة مفتوحة أمام الشباب المبدع من مختلف الجهات التونسية. وقد سعى من خلال هذا المركز إلى توفير بيئة محفزة للفن والتعلّم والإنتاج، مؤمنًا بأن المستقبل يبدأ من الجهات، وبأن الفنّ قادر على خلق التغيير الاجتماعي الإيجابي.
تكريمات ووسام الاستحقاق الثقافي
نال الفاضل الجزيري خلال مسيرته عدة جوائز وتكريمات، أبرزها وسام الاستحقاق الثقافي التونسي، الذي مُنح له تقديرًا لإسهاماته في النهوض بالمسرح والفن الوطني، وكذلك لمكانته كرمز للثقافة التونسية في الداخل والخارج.
كما مثّل تونس في العديد من التظاهرات الفنية والمهرجانات الدولية، وكان سفيرًا حقيقيًا للثقافة المغاربية والعربية، محمولًا بشغفه اللامحدود بالفن وحلمه الدائم بالتجديد.
وداعًا يا فاضل.. ستظل حاضرًا في الذاكرة
برحيل الفاضل الجزيري، فقدت تونس واحدًا من أبرز أبنائها الذين نذروا حياتهم للفن والثقافة والإنسان. لقد كان فنانًا شاملاً، جمع بين الفكر والفعل، وبين الجمال والالتزام. رحل الجسد، لكن الأعمال باقية، والذكرى حية في الوجدان، تحكي عن زمن كانت فيه الكلمة الصادقة والمسرح الجاد والموسيقى العميقة تعني الكثير.
وداعًا فاضل الجزيري، صاحب “الحضرة” و”العرس” و”النوبة” و”ثلاثون”… ستبقى نبراسًا ينير درب الأجيال القادمة.