لندن – السابعة الإخبارية
القراءة .. في عصر تغمرنا فيه الشاشات، وتتنافس التطبيقات والمنصات على انتباهنا، أصبحت القراءه، التي كانت يومًا ما مصدرًا رئيسيًا للمتعة والمعرفة، عادة آخذة في الاندثار. هذا التراجع لم يعد مجرد ملاحظة عابرة، بل أصبح موثقًا في دراسات أكاديمية تدق ناقوس الخطر بشأن التأثيرات العميقة لهذا التراجع، خاصة على الصعيد النفسي والصحي.

القراءة ترفيه… في تراجع ملحوظ
كشفت دراسة حديثة نشرتها مجلة iScience العلمية، وأجراها باحثون من جامعتي لندن وفلوريدا، عن انخفاض حاد في معدلات القراءه الترفيهية في الولايات المتحدة خلال العقدين الأخيرين، بنسبة تصل إلى 40%. وتُظهر البيانات المستقاة من متابعة عادات القراءة بين عامي 2003 و2023، أن القراءة اليومية أو الأسبوعية للمتعة تقلصت تدريجيًا بمعدل 3% سنويًا.
ووفقًا للتقرير المفصل الذي نشره موقع Health حول نتائج الدراسة، فإن المكتبات العامة باتت شبه مهجورة، حيث أفاد أقل من 1% من المشاركين بأنهم يزورون المكتبة يوميًا في عام 2023، مقارنة بنسب أعلى بكثير في سنوات سابقة.
الفئات الأكثر تأثرًا
تشير نتائج الدراسة إلى أن هذا التراجع لا يصيب الجميع بالتساوي. فقد تبيّن أن أصحاب الدخل المنخفض والمستوى التعليمي الأقل هم الأكثر تضررًا من هذا التراجع. أما النساء والأشخاص من حملة الشهادات العليا، فقد بقوا ضمن الفئات الأكثر قراءة، رغم انخفاض مستويات القراءة لديهم أيضًا.
ورغم هذا التراجع العام، كشفت الدراسة أن هناك بصيص أمل، حيث أظهرت البيانات أن نسبة القراءه بين الأطفال، خصوصًا عندما يقرأ لهم أولياء أمورهم، بقيت مستقرة نسبيًا. وهذا يعكس أهمية العادات المبكرة في ترسيخ حب القراءة منذ الصغر.

أسباب متعددة وراء الانحدار
لا يمكن إرجاع هذا الانخفاض إلى عامل واحد فقط، بل إلى مجموعة معقدة من الأسباب والعوامل المجتمعية والتقنية، من أبرزها:
• الضغوط اليومية: تزايد متطلبات العمل والدراسة قلّصت من وقت الفراغ المتاح للقراءة.
• التحول الرقمي: الانتشار الواسع للهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي ساهم في إغراق المستخدمين في محتوى فوري وسريع لا يتيح لهم التركيز الطويل.
• ضعف البنية الثقافية: قلة الموارد الثقافية، وانخفاض الاستثمار في المكتبات والمؤسسات المعرفية، أثرت سلبًا على فرص الوصول إلى الكتب.
القراءة والصحة النفسية: علاقة وثيقة
أحد أكثر الجوانب إثارة للقلق في هذه الدراسة هو ما توصل إليه الباحثون حول أثر تراجع القراءه على الصحة النفسية. فالقراءه ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل تُعد من الأنشطة التي تلعب دورًا مهمًا في تعزيز التوازن النفسي والعقلي.
وقد خلص الباحثون إلى أن القراءة المنتظمة يمكن أن تسهم في:
• تقليل مستويات التوتر والقلق.
• تحسين نوعية النوم.
• تقوية الذاكرة وتقليل خطر التدهور المعرفي مع التقدم في العمر.
• تعزيز التعاطف من خلال التفاعل مع شخصيات وقصص مختلفة.
• تنمية الشعور بالسلام النفسي.
• تقليل فرص الإصابة بالاكتئاب والاضطرابات النفسية.
خطوات لإحياء عادة القراءة
في ظل هذه المؤشرات المقلقة، قدّم فريق الدراسة مجموعة من التوصيات العملية التي تهدف إلى إعادة دمج القراءة في الحياة اليومية، ولو بجرعات صغيرة، من أبرزها:
1. اختيار ما يثير شغفك: لا تجبر نفسك على قراءة كتب ثقيلة إن لم تكن من اهتماماتك. اختر أنواعًا تحبها، مثل الروايات البوليسية أو القصص الخيالية.
2. ابدأ بخطوات صغيرة: عشر دقائق يوميًا من القراءة يمكن أن تكون كافية لبناء عادة مستدامة.
3. استغلال لحظات الفراغ: بدلاً من تصفح الهاتف أثناء الانتظار، يمكن حمل كتاب صغير أو استخدام تطبيق لقراءة الكتب الإلكترونية.
4. الانضمام إلى نوادي قراءة: سواء عبر الإنترنت أو على أرض الواقع، فالمشاركة مع الآخرين تعزز من الالتزام وتحفز الاستمرار.
5. استخدام التكنولوجيا لصالحك: المكتبات الرقمية والكتب الصوتية أصبحت وسيلة فعالة لمحبي القراءة أثناء التنقل أو الأعمال المنزلية.
في الختام
تُظهر هذه الدراسة أن تراجع القراءه ليس مجرد خسارة ثقافية، بل قضية صحة نفسية ومجتمعية تمسّ كل فرد. في وقت أصبحت فيه الضغوط اليومية والتقنيات الحديثة تستهلك حيزًا كبيرًا من حياتنا، تبرز القراءة كملاذ نفسي ضروري أكثر من أي وقت مضى. وربما يكون الحل في العودة إلى تلك اللحظات الهادئة مع كتاب جيد، لاستعادة التوازن الذي افتقدناه في عالم سريع ومزدحم وتُظهر هذه الدراسة أن تراجع القراءه ليس مجرد خسارة ثقافية، بل قضية صحة نفسية ومجتمعية تمسّ كل فرد. في وقت أصبحت فيه الضغوط اليومية والتقنيات الحديثة تستهلك حيزًا كبيرًا من حياتنا.
