بريطانيا – السابعة الإخبارية
ديف كورتني.. شهد الشارع البريطاني واحدة من أكثر القصص المأساوية في الآونة الأخيرة، بعد انتحار أحد أشهر رجال العصابات السابقين، ديف كورتني، عن عمر ناهز 64 عامًا، داخل منزله في جنوب شرق لندن، لتُطوى صفحة طويلة من حياة مثيرة للجدل امتلأت بالعنف، والنجومية الإعلامية، والكتابة، قبل أن تنتهي برصاصة وضعت حدًا لمعاناته مع المرض والألم المزمن.
مشهد النهاية
ووفق ما نقلته صحيفة ديلي ميل البريطانية، فقد عُثر على جثة كورتني داخل منزله المعروف باسم “قلعة كاميلوت”، مصابًا بطلق ناري في الرأس. وأكد الطبيب الشرعي الدكتور جوليان موريس أن الوفاة ناتجة عن انتحار متعمّد، دون وجود أي شبهة جنائية، مشيرًا إلى أن التحقيقات أثبتت أن كورتني كان يعيش وحيدًا خلال أيامه الأخيرة، بعد تدهور حالته الصحية والنفسية.
المفاجأة الأكبر تمثّلت في ما كشفته الوثائق الرسمية الصادرة عن المحكمة العليا في لندن، والتي بيّنت أن الرجل الذي عاش حياة الترف والشهرة لم يترك وراءه أي أموال تُذكر، حيث بلغت القيمة الإجمالية لممتلكاته داخل المملكة المتحدة صفر جنيه إسترليني، وهو ما شكّل صدمة لعائلته ومتابعيه على حد سواء.

من العصابات إلى الكتب
عُرف ديف كورتني خلال تسعينيات القرن الماضي كأحد أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في بريطانيا، إذ اشتهر بادعائه أنه كان على صلة بعصابة “كراي” سيئة السمعة التي سيطرت على عالم الجريمة في لندن خلال الستينيات. كان يظهر في وسائل الإعلام مرتديًا البذلات الفاخرة، متحدثًا عن عالم العصابات بقسوة وثقة، ما جعله مادة دسمة للصحف والبرامج الوثائقية.
لكن في سنواته اللاحقة، حاول كورتني إعادة تقديم نفسه بصورة مختلفة؛ فابتعد تدريجيًا عن عالم الجريمة، واتجه إلى الكتابة والتأليف، حيث أصدر عددًا من الكتب التي تناولت سيرته الذاتية وتجربته داخل السجون البريطانية، من أبرزها كتابه الشهير “واحدمنا” (One of the Boys)، الذي حظي بانتشار واسع وفتح له أبواب الظهور في المؤتمرات والمهرجانات الثقافية، كرمزٍ لـ “التوبة والتحوّل”.
ديون ثقيلة وقلعة بيعت في المزاد
ورغم ما جمعه من شهرة وثروات خلال سنوات المجد، إلا أن وثائق المحكمة كشفت الجانب المظلم من حياة كورتني المالية، حيث أكدت أن منزله الشهير في لندن، الملقب بـ“قلعة كاميلوت”، تم بيعه في يوليو (تموز) 2024 مقابل 500 ألف جنيه إسترليني، لكن العائدات استُخدمت بالكامل لتسديد الديون والمصاريف القانونية المتراكمة عليه.
ولم يحصل أحد من ورثته، بمن فيهم زوجته وابنتاه، على أي نصيب من أمواله. بل جاء في خطاب إدارة التركة أنه “لا توجد أي أصول سائلة أو ممتلكات يمكن توزيعها على الورثة”، وهو ما جعل نهاية حياته تحمل مفارقة قاسية بين صورة “رجل العصابات الثري” وبين واقع الإفلاس والعزلة.
وصايا أخيرة وأعمال خيرية
وبحسب تقارير إعلامية بريطانية، فإن كورتني أوصى قبل وفاته بالتبرع بنسبة تصل إلى 10% من ممتلكاته – مهما كانت قيمتها – لصالح عدد من الجمعيات الخيرية، من بينها منظمة “الدمج الشامل لذوي التوحد” التي تُعنى بدعم الأطفال والمراهقين المصابين باضطراب التوحد.
وقد وصف مقربون منه هذه الخطوة بأنها “محاولة أخيرة لتكفير الذات”، مشيرين إلى أنه في سنواته الأخيرة كان أكثر هدوءًا وتأملًا، وابتعد عن الأضواء والإعلام بعد إصابته بالتهاب المفاصل الروماتويدي، الذي تسبب له بآلام مزمنة أفقدته القدرة على الحركة الطبيعية.

رسائل وداع مؤثرة
التحقيقات التي أجرتها الشرطة البريطانية كشفت أن كورتني ترك سلسلة من مقاطع الفيديو المسجلة قبل وفاته، تحدث فيها بوضوح عن معاناته الجسدية والنفسية. وفي أحد المقاطع قال:
“أُخفي الكثير من الألم، لم أعد أستمتع بالحياة كما كنت، ولا أريد أن أتركها تذهب سدى بعد حياة رائعة عشتها”.
وفي مقطع آخر، نشره قبل ساعات فقط من انتحاره، وجّه رسالة مؤثرة إلى أصدقائه وعائلته قال فيها:
“هناك أشخاص سيحزنون، ولم أقصد أن أؤذي أحدًا، لكن الألم كان أقوى منّي.”
هذه الرسائل، التي سرعان ما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هزّت الرأي العام البريطاني وأعادت الجدل حول الصحة النفسية للرجال في منتصف العمر، وغياب الدعم الكافي للمرضى الذين يعانون من الألم المزمن والعزلة.
من نجم إعلامي إلى مأساة إنسانية
كان ديف كورتني قد تحوّل في مطلع الألفية الجديدة إلى شخصية إعلامية مشهورة في البرامج الوثائقية والأفلام التي تناولت عالم الجريمة المنظمة في بريطانيا. وبالرغم من ماضيه الإجرامي، كان يحرص على تقديم نفسه كـ“مستشار” اجتماعي يحذر الشباب من الانجراف وراء عالم العصابات، مؤكّدًا أنه “طريق لا نهاية له سوى الموت أو السجن”.
غير أن نهايته المأساوية جاءت لتعيد تسليط الضوء على هشاشة حياة المشاهير السابقين الذين يعيشون في الظل بعد انطفاء الأضواء، وتحوّل الشهرة إلى عبء ثقيل يصعب التخلّص منه.
خاتمة: حياة بين المجد والوجع
برحيل ديف كورتني، تُطوى صفحة من صفحات التاريخ الإجرامي البريطاني المليئة بالتناقضات؛ فهو الرجل الذي عاش مجد العصابات، وذاق مرارة السجون، وكتب عن التوبة، ثم انتهى وحيدًا، مريضًا، ومفلسًا.
لكن قصته تبقى تذكيرًا قاسيًا بأن الشهرة والثروة لا تحمي من الألم الإنساني، وأن خلف وجوه “الأساطير” تختبئ جراح قد لا يراها أحد، حتى تنفجر في لحظة صمت برصاصة تضع النهاية.
