أسوان – السابعة الإخبارية
رمسيس.. بينما يوشك الليل أن يسدل ستاره على صحراء النوبة، تتجه أنظار العالم في صباح يوم 22 أكتوبر إلى مدينة أبو سمبل في أقصى جنوب مصر، لمتابعة واحدة من أعجب الظواهر الفلكية وأدقها في التاريخ الإنساني: تعامد الشمس على وجه الملك رمسيس الثاني داخل قدس الأقداس بمعبده الكبير، في مشهد يتكرر مرتين فقط كل عام، ويُعيد إلى الأذهان عبقرية المصري القديم في الفلك والهندسة والتخطيط العمراني المقدس.
ظاهرة لا تتكرر إلا مرتين سنويًا
في تمام الساعة السادسة والثلث صباحًا تقريبًا، تتسلل أشعة الشمس مع أول خيوط الفجر، عبر ممر المعبد الذي يبلغ طوله نحو 60 مترًا، لتصل بدقة مدهشة إلى قدس الأقداس، حيث تُنير وجه الملك رمسيس الثاني الجالس وسط ثلاثة تماثيل أخرى: للإله رع حور آختي، والإله آمون رع، والإله بتاح.
المثير في هذه الظاهرة أن أشعة الشمس لا تضيء سوى وجوه ثلاثة تماثيل، بينما يبقى تمثال بتاح في الظل، احترامًا لرمزيته كإله العالم السفلي والظلام، ما يعكس دقة التخطيط الفلكي والهندسي الذي اتبعه الفراعنة قبل أكثر من 3200 عام.

احتفاء ملكي بالكون والزراعة
لا تأتي هذه الظاهرة الفريدة عبثًا في توقيت حدوثها، إذ يربط المؤرخون بين موعدي تعامد الشمس في 22 فبراير و22 أكتوبر من كل عام، وبين أحداث مهمة في حياة الملك رمسيس الثاني. فيُعتقد أن تعامد فبراير يوافق يوم جلوسه على العرش، بينما يمثل تعامد أكتوبر بداية موسم الحصاد في مصر القديمة، ما يجعل من الظاهرة رسالة فلكية دينية تحتفي بدورة الحياة والخصوبة والنماء.
هذه الرؤية تبرهن على أن الفراعنة لم يكونوا بناة حضارة عظيمة فقط، بل أيضًا فلاسفة كون وقراء دقيقين لحركة الشمس والكواكب، وقدروا على توظيف ذلك بدقة تامة في تصميم معابدهم ومعتقداتهم.
احتفالات عالمية واهتمام دولي
وفي كل عام، تتحول مدينة أبو سمبل خلال يومي التعامد إلى مزار عالمي، حيث يتوافد آلاف السائحين والزوار، إضافة إلى علماء الفلك وعشاق التاريخ، لمتابعة الظاهرة التي لا تدوم أكثر من 20 دقيقة.
تواكب محافظة أسوان هذا الحدث بتنظيم احتفالية كبرى تشمل عروضًا فنية، ومواكب نوبية، وموسيقى فولكلورية تعبّر عن التراث الجنوبي الغني. كما تُنقل الظاهرة على الهواء مباشرة عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية، التي تعتبرها مناسبة ثقافية وفلكية استثنائية توثّق استمرار عظمة الحضارة المصرية.
وتحظى الاحتفالية أيضًا برعاية وزارات السياحة والآثار والثقافة المصرية، ضمن خطة تستهدف الترويج لمصر كوجهة سياحية ذات طابع ثقافي نادر.
معبد انتقل… ولكن الشمس ما زالت تعرف الطريق
من المعجزات المرتبطة بهذه الظاهرة أنها ما زالت تحدث بدقة فلكية شبه مطابقة، رغم أن معبد أبو سمبل ليس في موقعه الأصلي. ففي ستينيات القرن الماضي، اضطرت الحكومة المصرية لنقل المعبد بالكامل خلال مشروع إنقاذ آثار النوبة، بعد بناء السد العالي الذي هدد بإغراق المنطقة.
وفي عملية وصفت حينها بـ”معجزة القرن العشرين“، تولّى فريق دولي من المهندسين وخبراء الآثار تفكيك المعبد الحجري وإعادة تركيبه بدقة فائقة فوق مرتفع صخري، يضمن استمرار الظاهرة في نفس الموعدين وبنفس زوايا الضوء الأصلية.
ورغم أن الفرق في توقيت التعامد الحالي يقدر بنحو 24 ساعة تقريبًا عن الأصل، فإن الدقة التي أُعيد بها تركيب المعبد تُعد إنجازًا غير مسبوق في مجال نقل الآثار.

رسالة من الماضي للمستقبل
إن مشهد تعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني هو أكثر من مجرد عرض فلكي مدهش، بل هو رسالة متجددة من الحضارة المصرية القديمة للعالم المعاصر، تُثبت أن الإنسان قادر على إدراك حركة الكون والتعايش معها، بل وتطويعها لخدمة الإيمان والفن والعلم.
ويظل معبد أبو سمبل شاهدًا حيًا على هذه العبقرية، بجدرانه المنحوتة وأعمدته الشاهقة، وتماثيله التي تقف شامخة أمام الزمن، تروي قصة حضارة لم تمت، بل ما زالت تُلهم ملايين البشر حول العالم.
إن مشهد تعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني هو أكثر من مجرد عرض فلكي مدهش، بل هو رسالة متجددة من الحضارة المصرية القديمة للعالم المعاصر، تُثبت أن الإنسان قادر على إدراك حركة الكون والتعايش معها، بل وتطويعها لخدمة الإيمان والفن والعلم.
ويظل معبد أبو سمبل شاهدًا حيًا على هذه العبقرية، بجدرانه المنحوتة وأعمدته الشاهقة، وتماثيله التي تقف شامخة أمام الزمن، تروي قصة حضارة لم تمت، بل ما زالت تُلهم ملايين البشر حول العالم.
