باريس – السابعة الاخبارية
أسبوع سرقات، في واقعة غريبة وغير مسبوقة، شهدت فرنسا خلال أيام قليلة موجة سرقات متتالية استهدفت أبرز متاحفها تحت مسمى أسبوع سرقات المتاحف، ما أشعل حالة من القلق في الأوساط الثقافية والأمنية على حد سواء.
فبعد ساعات من عملية السطو الجريئة التي طالت متحف اللوفر في قلب باريس، تعرّض متحف فرنسي آخر للسرقة بطريقة احترافية، وكأنها مشهد من فيلم بوليسي محكم الإخراج. الحدث الجديد أعاد إلى الأذهان التساؤلات حول أمن المتاحف الفرنسية، ومستقبل حماية تراثها الثقافي الذي يعد من الأغنى في العالم.
سرقة متحف ميزون دي لوميير.. عملية دقيقة ومخطط لها
لم تكد تمضي ساعات على الجريمة التي طالت اللوفر، حتى استيقظت مدينة لانغر الهادئة على صدمة جديدة تمثلت في سرقة متحف “ميزون دي لوميير” الذي يُعد من أهم المتاحف التاريخية في المنطقة. فبحسب التحقيقات الأولية، نفذ اللصوص عمليتهم يوم الأحد نفسه الذي شهد حادث اللوفر، لكن موظفي المتحف لم يكتشفوا الجريمة إلا صباح الثلاثاء عند وصولهم للعمل، ليجدوا خزائن العرض محطمة بعناية شديدة، دون أن يترك الجناة خلفهم أي آثار واضحة تدل على هويتهم.
العملية التي وُصفت بالاحترافية العالية استهدفت نحو ألفي قطعة نقدية من الذهب والفضة، بعضها يعود إلى أكثر من مئتي عام، وتقدر قيمتها الإجمالية بأكثر من 100 ألف جنيه إسترليني. هذه القطع لم تكن مجرد معادن ثمينة، بل كانت تحمل قيمة تاريخية استثنائية، إذ تعود إلى القرن الثامن عشر وتروي فصولًا من تاريخ فرنسا المالي والسياسي خلال تلك الحقبة.
أسبوع سرقات المتاحف، مجموعة نادرة تُنهب من قلب المتحف
العملات المسروقة كانت جزءًا من مجموعة نادرة اكتُشفت عام 2011 أثناء أعمال ترميم المتحف، الذي خُصص في الأساس لتكريم الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو، أحد رموز التنوير في أوروبا. هذه المجموعة مثلت مصدر فخر للمتحف، وجذبت الزوار والباحثين المهتمين بتاريخ النقد الفرنسي وتطوره، قبل أن تختفي في لمح البصر على أيدي عصابة يبدو أنها درست المكان جيدًا وخططت بدقة متناهية.
![]()
الخبراء في مجال التراث أعربوا عن قلقهم العميق من احتمال إذابة تلك العملات وبيعها كمعادن خام، ما سيجعل من المستحيل تقريبًا استرجاعها أو التعرف عليها لاحقًا. مثل هذا السيناريو يُعد كارثة حقيقية في نظر علماء الآثار، لأنه يعني فقدان جزء لا يُقدّر بثمن من الذاكرة التاريخية والثقافية الفرنسية.
السرقة الكبرى في اللوفر.. الجريمة التي هزت باريس
ما زاد من وقع الصدمة أن هذا الحادث جاء بعد ساعات فقط من سرقة مروعة داخل متحف اللوفر، أحد أشهر المعالم الثقافية في العالم. ففي وقت مبكر من صباح الأحد، تسلل رجلان ملثمان إلى قاعة أبولون مستخدمين رافعة ميكانيكية للوصول إلى الطابق العلوي، وتمكنا في أقل من سبع دقائق من الاستيلاء على مجموعة من الجواهر التاريخية التي تُوصف بأنها “جواهر التاج الفرنسي”.
عملية اللوفر نُفذت بدقة مذهلة وكأنها مشهد هوليوودي، إذ استخدم اللصوص أدوات متطورة لتجاوز أنظمة الإنذار، ثم فروا بدراجتين ناريتين تاركين خلفهم خوذة وقفازًا وشاحنة مسروقة حاولوا إحراقها. السلطات الفرنسية أعلنت لاحقًا أن المحققين عثروا على أكثر من 150 عينة من الحمض النووي والبصمات، مما قد يسهم في تحديد هوية الفاعلين.
تصاعد المخاوف من موجة سرقات منسقة
تزامن الحادثين أثار شكوك المحققين حول احتمال وجود عصابة منظمة تستهدف المتاحف الفرنسية بشكل متسلسل. المدعية العامة في باريس لور بيكّو أكدت أن التحقيقات جارية في إطار جريمة تآمر جنائي نفذتها مجموعة محترفة على مستوى عالٍ من التنظيم. وأضافت أن تحليل الأدلة البيولوجية واسترجاع لقطات الكاميرات يمثلان أولوية قصوى للجهات الأمنية التي تسعى لفكّ خيوط القضية.
لكنّ التساؤل الأبرز الذي يشغل الرأي العام الفرنسي اليوم هو: كيف يمكن أن تُسرق مقتنيات بهذا الحجم من متاحف يفترض أنها من أكثر الأماكن أمنًا في أوروبا؟ وهل نحن أمام موجة جديدة من الجرائم المنظمة التي تستغل التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي للتخفي وتضليل السلطات؟
سلسلة من الحوادث تهدد المتاحف الفرنسية
هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها المؤسسات الثقافية الفرنسية لهجمات مشابهة. فقد شهدت البلاد في الأشهر الأخيرة سلسلة من السرقات التي طالت متحف التاريخ الطبيعي في باريس ومتحف الخزف الوطني في ليموج، ما يشير إلى وجود اتجاه متزايد نحو استهداف المقتنيات الثمينة ذات القيمة الفنية والتاريخية.
خبراء الأمن الثقافي يرون أن هذه الجرائم قد تكون نتيجة لتنامي السوق السوداء العالمية لبيع التحف والآثار، خاصة في ظل ارتفاع الطلب من جامعين أثرياء ومستثمرين يسعون لاقتناء قطع فريدة بعيدًا عن أعين القانون. هذه الأسواق غير الشرعية أصبحت تشكل خطرًا كبيرًا على التراث الإنساني، إذ تُباع القطع المسروقة بطرق ملتوية يصعب تعقبها.
دعوات لتعزيز أمن المتاحف وإصلاح المنظومة
في ظل هذا الواقع المقلق، تتعالى الأصوات المطالبة بإعادة النظر في منظومة حماية المتاحف الفرنسية. فالكثير من المؤسسات الثقافية تعتمد حتى اليوم على أنظمة أمنية تقليدية لا تواكب التطورات التقنية التي يستخدمها اللصوص. الخبراء يقترحون دمج الذكاء الاصطناعي وأنظمة التعرف على الوجه وتحليل الحركة في منظومة المراقبة، لضمان استباق أي محاولة سرقة مستقبلية.
كما دعا عدد من البرلمانيين الفرنسيين إلى فتح تحقيق برلماني شامل حول أوضاع أمن المتاحف، خاصة تلك الموجودة خارج العاصمة باريس والتي لا تحظى بنفس القدر من الحماية. وذهب آخرون إلى المطالبة بتشكيل وحدة خاصة تابعة لوزارة الثقافة تُعنى حصريًا بحماية التراث ومتابعة السوق السوداء للقطع الفنية المسروقة.
رسالة قوية من المجتمع الثقافي الفرنسي
في المقابل، عبّر الفنانون والمؤرخون الفرنسيون عن حزنهم العميق لما حدث، معتبرين أن هذه السرقات ليست مجرد اعتداءات مادية، بل طعن في هوية فرنسا الثقافية التي لطالما تفاخرت بحماية الفنون والعلوم والآداب. بعضهم دعا إلى حملة توعية واسعة لتذكير الناس بأهمية حماية التراث باعتباره ملكًا جماعيًا لا يقدّر بثمن.
ومع استمرار التحقيقات وتكثيف الجهود الأمنية، تبقى هذه الجرائم جرس إنذار خطير يهدد أحد أهم أعمدة الحضارة الأوروبية. فكل قطعة تُسرق لا تمثل فقط خسارة مادية، بل صفحة تُنتزع من كتاب التاريخ الإنساني. فرنسا اليوم أمام تحدٍ كبير: أن تستعيد ما سُرق من متاحفها، وأن تستعيد معه ثقة شعبها والعالم في قدرتها على حماية إرثها العظيم.
![]()
وهكذا، يُختتم أسبوع من الأحداث الصاخبة في فرنسا، لم يكن مليئًا بالفن والجمال كما اعتادت باريس أن تكون، بل غارقًا في ظلال القلق والخوف من أن يتحول تاريخها الفني الثمين إلى هدف سهل في أيدي عصابات تبحث عن الثراء السريع على حساب ذاكرة أمة بأكملها.
