بريطانيا – السابعة الاخبارية
تيك توك، في واقعة مأساوية هزّت المجتمع البريطاني والعالم، لقي الطفل أوليفر غورمان، البالغ من العمر 12 عامًا، حتفه بعد مشاركته في تحدٍّ خطير انتشر على تطبيق تيك توك يعرف باسم “الكرومينغ” (Chroming). الحادث لم يكن مجرد قصة مؤلمة لطفل فقد حياته، بل أصبح صرخة تحذير عالمية ضد مخاطر التحديات الرقمية التي تجتاح المنصات الاجتماعية وتغري المراهقين بخوض مغامرات قاتلة بحثًا عن لحظة من الشهرة أو الفضول.
تيك توك يتسبب في كارثة جديدة بسبب تحدي الكرومينغ
بدأت المأساة عندما عُثر على أوليفر جثة هامدة في غرفته بمدينة هايد التابعة لمنطقة مانشستر الكبرى، بعد يوم عادي قضاه في اللعب والضحك مع أسرته. لم يكن أحد يتوقع أن نهاية اليوم ستتحول إلى فاجعة، بعدما قرر الطفل تجربة التحدي المنتشر على تيك توك، والذي يقوم على استنشاق بخاخات مزيلة للعرق أو مواد كيميائية تحتوي على غازات مضغوطة، بهدف الشعور بنشوة قصيرة.

وأوضحت التحقيقات الرسمية أن وفاة أوليفر كانت نتيجة استنشاق غاز البيوتان الموجود في عبوات مزيلات العرق، وهو غاز شديد السمية يؤدي إلى اختناق فوري واضطراب في نبضات القلب. ومع أن الحادث وُصف بأنه “عرضي”، إلا أنه فتح الباب أمام نقاش واسع حول دور المنصات الرقمية في نشر سلوكيات خطيرة بين الأطفال والمراهقين.
طفل ودود وقع ضحية تحدٍّ رقمي مميت
في جلسة التحقيق التي عُقدت في محكمة جنوب مانشستر، تحدثت والدة الطفل، كلير غيليسبي، بمرارة عن ابنها قائلة إنه كان “ودودًا ومحبًا لعائلته”، ولم يكن يملك أي نية لإيذاء نفسه. وأضافت أن ابنها كان يمر بفترة من التغييرات النفسية والاجتماعية بعد انتقاله من المدرسة الابتدائية إلى الثانوية، وكان يواجه صعوبة في التأقلم مع البيئة الجديدة، مع مخاوف من تعرضه للتنمر.
وأشارت الأم إلى أن أوليفر كان يتابع مقاطع على تيك توك تتحدث عن تحديات وتجارب، وربما جرب التحدي بدافع الفضول فقط دون أن يدرك مدى خطورته. لحظات بسيطة فصلت بين تجربة بريئة وبين مأساة أنهت حياة طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.
تحدي الكرومينغ.. سمّ رقمي ينتشر عبر الشاشات
يعتمد هذا التحدي المميت على استنشاق الغازات المضغوطة الموجودة في بخاخات مثل مزيلات العرق، مثبتات الشعر أو معطرات الجو. تحتوي هذه المواد على مركبات كيميائية مثل البيوتان والبروبان، التي تؤثر مباشرة على الجهاز العصبي، وتسبب شعورًا لحظيًا بالنشوة والدوار، لكنها في المقابل تُحدث نقصًا حادًا في الأوكسجين داخل الجسم، مما يؤدي إلى توقف القلب أو الدماغ في غضون ثوانٍ.
ويحذر الأطباء من أن هذه الظاهرة تُعرف علميًا باسم “متلازمة الموت المفاجئ بالاستنشاق”، وهي حالة قاتلة يمكن أن تحدث من أول تجربة، دون وجود أي سوابق أو مؤشرات مسبقة. ورغم التحذيرات الطبية المتكررة، فإن انتشار هذه التحديات على المنصات الاجتماعية يجعل من الصعب السيطرة على وصولها إلى فئة المراهقين.
اتهامات لتطبيق تيك توك بالتقصير في حماية القُصّر
أثار الحادث غضبًا واسعًا في الشارع البريطاني، حيث وجّه القاضي أندرو بريدغمان، مساعد الطبيب الشرعي، انتقادات لاذعة لتطبيق تيك توك، متهمًا إياه بتسهيل الوصول إلى محتوى خطير دون ضوابط واضحة. وأكد خلال جلسة المحكمة أن “المنصة مسؤولة بشكل غير مباشر عن انتشار مثل هذه التحديات بين الأطفال، وأن الخوارزميات تشجع على عرض المحتوى الصادم لجذب المشاهدات”.
القاضي دعا الحكومة والشركات المصنعة لاتخاذ إجراءات عاجلة، من بينها فرض قيود عمرية على شراء بخاخات مزيلة العرق ذات الرش الهوائي، ووضع تحذيرات واضحة على عبواتها تنبه إلى مخاطر استنشاقها. كما طالب تيك توك بتشديد سياساته تجاه المحتوى المؤذي وتفعيل آليات الرقابة الأبوية بشكل أكثر فعالية.
حادث يُسجل كـ “سوء تقدير مأساوي”
خلص تقرير التحقيق النهائي إلى أن وفاة أوليفر سُجلت كـ”حادث ناتج عن سوء تقدير”، مؤكدًا أنه لم تكن هناك أي نية للانتحار أو إيذاء الذات. ومع ذلك، اعتبر التقرير أن الحادث يسلط الضوء على ثغرة خطيرة في الوعي الرقمي لدى الأطفال، حيث يندفعون لتقليد ما يشاهدونه دون إدراك لتبعاته الصحية أو القانونية.
الضابط المسؤول عن التحقيق أوضح أنه خلال أكثر من 20 عامًا من عمله، لم يشهد حالة وفاة مشابهة بسبب استنشاق مزيلات العرق، ما يعكس مدى خطورة هذه الظاهرة الجديدة التي تتخذ من الإنترنت ساحة للعبث بالأرواح.
حملة “وعي أوليفر”.. من الحزن إلى الأمل
لم تقف عائلة أوليفر مكتوفة الأيدي أمام هذه المأساة، بل قررت تحويل الألم إلى رسالة إنسانية. فأطلقت والدته حملة توعوية تحت اسم “وعي أوليفر” (Oliver’s Awareness)، تهدف إلى نشر الوعي بين الأطفال والمراهقين حول مخاطر التحديات المنتشرة عبر الإنترنت، والتعامل الواعي مع مواقع التواصل الاجتماعي.
الحملة لاقت دعمًا واسعًا من المدارس والمجتمعات المحلية، وبدأت بتنظيم ورش عمل تثقيفية للأهالي والمعلمين، حول كيفية مراقبة استخدام الأطفال للتطبيقات ومحتواها، مع التأكيد على أهمية الحوار الأسري المفتوح لحماية المراهقين من الوقوع فريسة للتحديات المميتة.
مخاطر تتجاوز الشاشة
يرى خبراء علم النفس أن مثل هذه الحوادث تعكس أزمة أعمق تتعلق بعزلة الجيل الجديد واعتمادهم المفرط على العالم الافتراضي كمصدر للتسلية والتفاعل الاجتماعي. الطفل الذي يخوض تحديًا مميتًا لا يبحث بالضرورة عن المخاطرة، بل عن الانتماء والقبول داخل مجتمع رقمي يعاقب من يخرج عن تياره.
التحديات على تيك توك وغيرها من المنصات غالبًا ما تبدأ كمزحة أو فضول، لكنها سرعان ما تتحول إلى سباق خطر للحصول على أكبر عدد من المشاهدات والإعجابات، وهو ما يدفع البعض لتجربة أفعال لا يدركون عواقبها. هذه الظاهرة تكشف هشاشة الوعي الجمعي للمراهقين أمام ضغوط السوشيال ميديا، التي تخلط بين الترفيه والمجازفة.
أزمة مسؤولية مشتركة
المسؤولية لا تقع على الأطفال وحدهم، بل تشمل المنصات الرقمية، وأولياء الأمور، والمؤسسات التعليمية، وحتى الحكومات. فالعالم اليوم يعيش أمام جيل يتعلم ويكتشف ويجرب من خلال شاشة هاتف، مما يجعل الرقابة التربوية والأخلاقية أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.
الخبراء يقترحون أن تتضمن المناهج الدراسية برامج توعية رقمية إلزامية، تُعلّم الأطفال كيفية التعامل الآمن مع الإنترنت، وتمييز المحتوى الضار من المفيد، إضافة إلى إنشاء وحدات رقابة متخصصة تتابع التحديات المنتشرة على التطبيقات وتُبلغ عنها فورًا.

صرخة للمستقبل
رحيل أوليفر غورمان لم يكن مجرد حادث عابر، بل ناقوس خطر يدق بقوة في كل بيت. قصة هذا الطفل أصبحت رمزًا لحاجة العالم إلى إعادة التفكير في كيفية حماية أطفاله من فوضى الإنترنت. فبينما يزداد الإبداع في التكنولوجيا، تتسع أيضًا فجوة الوعي، ويبدو أن الحل لن يأتي إلا من خلال تعاون جماعي يضع حياة الإنسان فوق أي خوارزمية أو ترند.
بهذا، تبقى مأساة أوليفر جرحًا مفتوحًا في ذاكرة بريطانيا، لكنها أيضًا رسالة للعالم بأسره بأن التحديات الرقمية قد تسرق الأرواح قبل أن تمنح الشهرة. وأن كل نقرة، وكل مشاهدة، قد تكون بداية لقصة لا تنتهي بالضحك، بل بالدموع.
