بيروت – السابعة الإخبارية
تصاعدت خلال الساعات الماضية في لبنان موجة جدل واسعة إثر تداول مقاطع مصوّرة من داخل مغارة جعيتا، أحد أبرز المعالم الطبيعية والسياحية في البلاد، تُظهر إقامة احتفال موسيقي داخل الكهف الشهير، ما أثار استياء شريحة كبيرة من اللبنانيين الذين اعتبروا ما جرى “تعدّيًا على موقع وطني بيئي يفترض أن يبقى محميًا من أي نشاط بشري قد يؤثر على تكوينه الطبيعي”.
المقاطع التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت حضورًا كثيفًا لأشخاص داخل المغارة وسط أجواء موسيقية وتصفيق، فيما اعتقد كثيرون في البداية أن الأمر يتعلق بحفل زفاف خاص. وسرعان ما تحوّل الموضوع إلى قضية رأي عام، دفعت الجهات الرسمية إلى التدخل وإصدار بيانات متتالية لتوضيح ما جرى.

البلدية تبرر: ليست حفلة زفاف بل “سهرة تحضيرية”
في أول رد رسمي، خرج رئيس بلدية جعيتا موضحًا أن النشاط لم يكن حفل زفاف كما تم تداوله، بل “سهرة تحضيرية بسيطة” حضرها قرابة 120 شخصًا واستمرّت لنحو 30 دقيقة فقط. وأكد أن الهدف من الحدث كان الترويج للموقع وتنشيط الحركة السياحية بعد فترة طويلة من الجمود والإهمال.
وأوضح رئيس البلدية أن العديد من المغارات الطبيعية حول العالم، مثل مغارة “بوستونيا” في سلوفينيا أو “كهف الماموث” في الولايات المتحدة، تستضيف أمسيات موسيقية أو فعاليات ثقافية خاضعة لمعايير بيئية دقيقة، معتبرًا أن ما جرى في جعيتا يندرج ضمن هذا الإطار، وأن البلدية تعمل على مشاريع تعاون مستقبلية لجمع التبرعات لصيانة الموقع وتحسين مرافقه.
لكن هذه التبريرات لم تُقنع كثيرين من النشطاء والمهتمين بالبيئة، الذين رأوا أن المقارنة لا تصح لأن مغارة جعيتا تخضع لنظام بيئي خاص، وأن أي تغير في الإضاءة أو درجة الحرارة قد يؤثر في التكوينات الصخرية النادرة داخلها.
انتقادات لاذعة على المنصات: “قوانين على الناس.. واستثناءات للطبقة المخملية”
تفاعل آلاف المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي مع الفيديوهات المنتشرة، وأعرب كثيرون عن غضبهم من السماح بإقامة نشاط موسيقي داخل المغارة، في وقت يُمنع فيه الزوار العاديون حتى من التقاط الصور داخلها حفاظًا على التكوينات الحساسة.
وكتب أحد المعلقين:”إذا دخل السائح إلى مغارة جعيتا أول ما يُقال له: ممنوع التصوير لأن الإضاءة القوية تؤثر على تكوين المغارة. أمّا هنا، فأُقيم حفل كامل بإضاءة وموسيقى!”
فيما غرّد آخر بلهجة حادة قائلًا:”الدولة المحترمة سمحت لأشخاص من الطبقة المخملية بإقامة حفل زفاف داخل مغارة جعيتا، بموسيقى صاخبة وتصوير وعدد كبير من الحاضرين، بينما يُمنع المواطن العادي من التقاط صورة. ما هذا التناقض؟”
تلك التعليقات تعكس حالة من الاحتقان الشعبي المتنامي تجاه ما يراه اللبنانيون “ازدواجية في تطبيق القوانين”، حيث يتم التغاضي عن مخالفات حين يكون أصحابها من فئات معينة، بينما تُفرض القيود الصارمة على بقية المواطنين.

وزارة السياحة تتدخل: إنذار رسمي ومساءلة إدارية
تفاقم الجدل دفع وزارة السياحة اللبنانية إلى التحرك سريعًا، إذ أصدرت بيانًا رسميًا أعلنت فيه أنها ستوجّه كتاب إنذار رسمي إلى بلدية جعيتا، معتبرة أن ما حدث يشكّل مخالفة واضحة لشروط التعاقد الموقّع بشأن إدارة وتشغيل الموقع.
وأوضحت الوزارة أن البلدية نظّمت النشاط دون الحصول على موافقة رسمية مسبقة، رغم وجود تواصل شفهي سابق لم يتضمّن أي طلب خطي أو تفاصيل عن طبيعة الفعالية، وهو ما يُعدّ خرقًا للإجراءات القانونية المعمول بها في المواقع السياحية التابعة لإشراف الدولة.
وأضاف البيان أن البلدية لم تُقدّم للوزارة أي بيانات مالية أو عقود رعاية تتعلق بالاحتفال، الأمر الذي اعتبرته الوزارة “إخلالًا إداريًا” يستوجب المساءلة. كما شددت على أنها تتحمل كامل مسؤولياتها في الإشراف على الموقع، مؤكدة عزمها اتخاذ الإجراءات المناسبة لضمان عدم تكرار ما حصل، وصون المعلم من أي أنشطة قد تهدد خصوصيته البيئية.
مغارة جعيتا… أيقونة لبنانية في مهب الإهمال
تُعدّ مغارة جعيتا واحدة من أهم الوجهات السياحية في لبنان والمنطقة، إذ تمتد على مسافة تتجاوز تسعة كيلومترات، وتتميز بتكوينات صخرية فريدة من نوعها، جعلتها تصل في مراحل سابقة إلى القوائم النهائية لاختيار “عجائب الدنيا السبع الطبيعية”.
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا في مستوى الاهتمام الرسمي بالموقع، نتيجة الأزمات الاقتصادية والسياسية المتتالية، ما أدى إلى ضعف في الصيانة وتراجع أعداد الزوار المحليين والأجانب على حد سواء.
ويخشى كثير من المهتمين أن تؤدي مثل هذه الحوادث إلى فقدان الموقع جزءًا من سمعته العالمية، خصوصًا إذا لم تُتخذ خطوات واضحة لحمايته من أي نشاط عشوائي.

خاتمة: بين حماية التراث وتشجيع السياحة
تكشف أزمة مغارة جعيتا مجددًا هشاشة العلاقة بين التنمية السياحية وحماية البيئة في لبنان، حيث تتقاطع المصالح البلدية مع القوانين الوطنية في غياب واضح للتنسيق المؤسسي.
وفي حين يؤكد البعض أن إقامة نشاط ثقافي داخل المعلم قد يفتح آفاقًا جديدة للسياحة المستدامة، يرى آخرون أن المقدسات الطبيعية لا تُروَّج بالاحتفالات، بل بالحفاظ عليها كما هي.
ويبقى السؤال المطروح: هل تتحول الضجة الحالية إلى فرصة لإعادة تنظيم إدارة هذا الإرث الوطني، أم تنتهي كغيرها من القضايا في دهاليز الجدل الإلكتروني؟
