الشارقة – السابعة الاخبارية
وليد علاء الدين، في عالمٍ تتزاحم فيه الأصوات وتتشابك فيه الأفكار، يطل الكاتب وليد علاء الدين بعملٍ جديد يحمل عنوانًا يثير الفضول منذ الوهلة الأولى: «لغز السيد س/ فن اقتناص الخيال في الكتابة». هذا الكتاب، الذي تستضيف دار الشروق لقاءً لتوقيعه ومناقشته في معرض الشارقة الدولي للكتاب يوم الأحد 9 نوفمبر 2025، ليس مجرد إصدار جديد في مكتبة الأدب العربي، بل تجربة فكرية وفنية تفتح بابًا إلى أعماق العملية الإبداعية ذاتها.
الفعالية، التي تُقام في جناح دار الشروق (S2، قاعة 3) ضمن أنشطة المعرض الممتد من 5 إلى 16 نوفمبر في مركز إكسبو الشارقة، تمثل لحظة التقاء بين الكاتب وجمهوره، وبين السؤال والإجابة، وبين الخيال والواقع. إنها مناسبة لا لعرض كتاب فحسب، بل لطرح رؤية جديدة عن الكتابة بوصفها فعلًا معرفيًا وإنسانيًا عميقًا.
وليد علاء الدين.. الكتابة بين الموهبة والملكة
يبدأ وليد علاء الدين من فرضية مغايرة لما اعتاده كثيرون. فهو لا يرى الكتابة الأدبية “موهبة” بالمعنى المتداول، بل “ملكة” تُكتسب وتُنمّى وتُهذّب، لتصبح جزءًا من تكوين الكاتب ووعيه. في مقدمة كتابه يؤكد أن الكتابة لا تأتي من فراغ، بل هي ثمرة تفاعل الحواس والمعرفة والتجربة الإنسانية في بوتقة واحدة. فالكاتب ليس مجرد ناقل لأفكار، بل صانع لعوالم، يلتقط لحظات الخيال قبل أن تتبدد في زحمة الواقع.
بهذا المنظور، يتحول فعل الكتابة إلى نوع من الصيد الذهني، حيث يتربص الكاتب باللحظة الإبداعية كما يتربص الصياد بفريسته، لا ليقتلها، بل ليمنحها حياة جديدة داخل النص. ومن هنا تأتي فكرة “الاقتناس” في العنوان: اقتناص الخيال لا يعني امتلاكه، بل فهمه وتوجيهه وتحويله إلى طاقة إبداعية.

الكلمات كقوة مغيرة للواقع
ينطلق الكتاب من إيمان عميق بأن الكلمات قادرة على تغيير الواقع. فالكلمة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل أداة لإعادة تشكيل العالم. كل فكرة عظيمة بدأت بكلمة، وكل ثورة فكرية أو فنية كانت نتاج نص أو خطاب حرّك الوعي الإنساني.
يرى وليد علاء الدين أن الكتابة ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية. فحين يكتب الإنسان، فإنه لا يسرد فقط ما رآه، بل يعيد خلقه وفق منظوره الداخلي. الكتابة هنا تصبح وسيلة لفهم الذات والعالم، ولتحويل القلق الإنساني إلى طاقة خلاقة. إنها، كما يصفها الكاتب، رحلة لفك شفرة الإبداع، يتتبع فيها الكاتب لحظة ما قبل الكتابة، تلك اللحظة التي يتصارع فيها الخيال والوعي، قبل أن يتحولا إلى نص.
بين القلق والإبداع
في «لغز السيد س»، لا يخفي وليد علاء الدين إيمانه بأن القلق جزء أساسي من التجربة الإبداعية. لكنه يدعو إلى تحويل هذا القلق من عبء إلى رحلة استكشاف. فالقلق، في نظره، هو المحرك الذي يدفع الكاتب للبحث عن إجابات، ولطرح الأسئلة التي لا يجرؤ الآخرون على طرحها.
ومن خلال لغة فلسفية عميقة ممزوجة بأمثلة واقعية، يقدم الكاتب أدوات عملية تساعد القارئ على التعامل مع القلق باعتباره بوابة إلى الخيال. كيف يمكن للكاتب أن يصطاد فكرة قبل أن تتلاشى؟ كيف يحول الصورة الذهنية إلى مشهد مكتوب؟ وكيف يوازن بين الانضباط الفني وحرية الخيال؟ كل هذه الأسئلة يناقشها المؤلف بأسلوب يجمع بين التحليل العقلي والسرد الحكائي، مما يجعل القراءة تجربة فكرية ممتعة لا تخلو من الإلهام.
الخيال كضرورة إنسانية
يؤكد وليد علاء الدين أن الخيال ليس ترفًا كما يظن البعض، بل هو ضرورة لخلق عالم أكثر جمالًا وإنسانية. فمن دون الخيال، تتوقف القدرة على التطور والإبداع. والخيال في الكتاب ليس هروبًا من الواقع، بل إعادة صياغة له من زاوية جديدة.
يستحضر الكاتب في فصوله تجارب عمالقة الأدب والعلم الذين حوّلوا الخيال إلى إنجازات ملموسة: من الأدباء الذين ابتكروا عوالم روائية غيّرت نظرتنا إلى الإنسان، إلى العلماء الذين تخيلوا حلولًا قبل أن تتحقق في الواقع. ويستخلص من هذه النماذج دروسًا حول كيفية تحويل الخيال إلى منهج تفكير لا مجرد لحظة إلهام عابرة.
التحرر من سطوة الكمال
واحدة من أهم أفكار الكتاب هي الدعوة إلى التحرر من سطوة الكمال. كثير من الكتّاب والمبدعين يتوقفون في منتصف الطريق خوفًا من ألا يكون ما يكتبونه “مثاليًا”. غير أن وليد علاء الدين يرى أن الكمال عدو الإبداع، وأن الكتابة فعل حرّ بطبيعته، لا يتحقق إلا عندما يتخلى الكاتب عن الخوف ويمنح نفسه فرصة التجربة والخطأ.
من هذا المنطلق، يصبح الكتاب بمثابة مرشد نفسي وفكري لكل من يسعى إلى الكتابة أو الإبداع في أي مجال. فهو لا يقدم “وصفات جاهزة”، بل يفتح الباب للتأمل الشخصي، ويدعو القارئ إلى اكتشاف صوته الخاص وسط ضجيج الأصوات.
بين الفلسفة والحكاية
يمزج وليد علاء الدين بين الأسلوب الفلسفي والحكائي في تناسق نادر. فهو يطرح أفكاره النظرية من خلال حكايات قصيرة، ومواقف رمزية، وتجارب واقعية. هذه الطريقة تجعل النص قريبًا من القارئ، وتمنحه شعورًا بأنه يشارك الكاتب في رحلة فكرية ممتدة.
في بعض المقاطع، يتحدث الكاتب بلسان “السيد س”، الشخصية الرمزية التي تمثل الإنسان الباحث عن المعنى، المتردد بين الواقع والخيال، بين الرغبة في التعبير والخوف من الفشل. عبر هذه الشخصية، يخلق علاء الدين نوعًا من الحوار الداخلي مع القارئ، يجعل الكتاب يبدو كمرآة تعكس صراعاتنا الإبداعية اليومية.
لقاء الشارقة: احتفاء بالكتابة والخيال
اللقاء المرتقب مع وليد علاء الدين في معرض الشارقة الدولي للكتاب يأتي في سياق احتفائي بالكتابة كقيمة إنسانية وجمالية. فمعرض الشارقة، الذي يعد من أبرز التظاهرات الثقافية في العالم العربي، يجسد روح الانفتاح والتواصل بين الكتّاب والقراء، ويمنح لكل صوت أدبي فرصة للانتشار والتفاعل.
دار الشروق، التي تنظم الفعالية، تؤكد من خلال هذا اللقاء التزامها بدعم المشاريع الفكرية التي تحرّك الوعي وتفتح آفاق الخيال. ومن المتوقع أن يشهد اللقاء نقاشًا حيًّا حول مفاهيم الإبداع والكتابة، وكيف يمكن للكاتب العربي اليوم أن يوازن بين الأصالة والتجديد في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية والثقافية.

ختامًا
«لغز السيد س/ فن اقتناص الخيال في الكتابة» ليس مجرد كتاب يُضاف إلى رفوف المكتبات، بل رحلة فكرية تأخذ القارئ إلى قلب التجربة الإبداعية. إنه محاولة لفهم الكتابة من الداخل، من حيث تولد الفكرة، وتنمو، وتتحول إلى نص قادر على لمس القلوب والعقول.
من خلال لغته الثرية، وأفكاره العميقة، وتجربته المتفردة، يقدّم وليد علاء الدين عملًا يدعو إلى إعادة اكتشاف الكتابة بوصفها فعلًا إنسانيًا شاملًا، يجمع بين المعرفة والخيال، بين الفكر والعاطفة، وبين القلق والجمال.
إنه دعوة إلى الكتابة بلا خوف، والتفكير بلا حدود، والخيال بلا قيود — لأن في كل إنسان كاتبًا ينتظر لحظة اقتناص خياله الخاص.
