الشارقة – السابعة الاخبارية
محمد عثمان الخشت، شهد جناح منتدى أبوظبي للسلم في معرض الشارقة الدولي للكتاب محاضرة فكرية نوعية ألقاها الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة السابق وعضو المجلس الأعلى العلمي لجامعة محمد بن زايد، تحت عنوان:
«القراءة الرشيدة ومحاربة التطرف الفكري في ظل العولمة والذكاء الاصطناعي»،
وذلك برعاية العلامة عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس منتدى أبوظبي للسلم، وبإدارة الدكتور عمر بن بيه، وبمشاركة الدكتور عارف نايض، وبحضور نخبة من المثقفين ورواد الفكر.
محمد عثمان الخشت.. قراءة في زمن العولمة بين اتساع المعرفة وفقاعات الجهل
استهل الدكتور الخشت محاضرته بتشخيص واقع القراءة في زمن العولمة، موضحًا أن التحولات الرقمية الجذرية التي يشهدها العالم قد غيّرت أنماط القراءة جذريًا.
ففي حين أتاحت العولمة والوسائط الذكية وصول المعرفة إلى الجميع، إلا أنها – بحسب الخشت – خلقت في المقابل تحديات خطيرة، من بينها السطحية المعرفية، وتفكك العمق الثقافي، وظهور فقاعات فكرية مغلقة.
وقال الخشت إن القارئ المعاصر بات يعيش داخل ما يُعرف بـ “غرف الصدى المعرفية” التي تصنعها خوارزميات الذكاء الاصطناعي، موضحًا أن تلك الخوارزميات لا تعرض للإنسان إلا ما يتوافق مع آرائه المسبقة، فتُغذّي تحيزاته وتُعيد إنتاجها، بدل أن تفتح أمامه نوافذ للتنوّع والتعدد.

الخشت: القراءة ليست مهارة لغوية.. بل فعل روحي وعقلي يحرر الإنسان
توقف الدكتور الخشت عند مفهوم “القراءة الرشيدة”، مشيرًا إلى أنها ليست مجرد مهارة لغوية أو تقنية تعليمية، بل هي فعل معرفي وروحي يشكّل وعي الإنسان، ويصنع شخصيته، ويؤسس لسلامه الداخلي وقدرته على التعايش مع الآخرين.
وأوضح أن القراءة الواعية تنقذ الفرد من السطحية والانغلاق، وتمنحه القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، وبين الفكرة والدوغما، مؤكدًا أن الأمم التي تعلّم أبناءها القراءة الحرة الواعية هي الأمم التي تنعم بالاستقرار والسلم الاجتماعي.
من الوحي إلى الوعي.. أول أمر إلهي كان “اقرأ”
ذكّر الخشت الحضور بأن أول كلمة نزلت من الوحي الإلهي كانت “اقرأ”، معتبرًا أن ذلك يجعل القراءة فعلًا تأسيسيًا للحضارة الإسلامية، ومفتاحًا للنهضة الفكرية والعلمية.
وقال إن الإسلام ربط بين الإيمان والعقل، وبين العلم والسلوك، فجعل القراءة سبيلًا إلى بناء الإنسان لا مجرد أداة لتلقّي المعلومات.
وأضاف أن الأمم التي تُكرّس عادة القراءة تبني مجتمعات مستقرة ومتصالحة مع ذاتها، بينما يؤدي انخفاض معدلات القراءة إلى زيادة احتمالات العنف والتطرف، لأن الجهل، في رأيه، هو التربة التي تنبت عليها كل أشكال الصراع.
العولمة الرقمية وتحدي التفكير النقدي
ناقش الخشت في جزء من محاضرته أثر العولمة الرقمية على سلوك الإنسان القرائي، موضحًا أن هيمنة الوسائط السريعة ومواقع التواصل الاجتماعي أدت إلى تراجع القراءة المتأنية، وحلت محلها القراءة المقتطعة والمجزأة التي تضعف التفكير النقدي وتختزل المعرفة في عناوين لامعة بلا مضمون.
وحذر من أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى قد يجعل الإنسان أسيرًا لخوارزميات لا تفكر بل تُعيد التكرار، داعيًا إلى تطوير خوارزميات مسؤولة تراعي التنوع الثقافي، وتشجع على الانفتاح الفكري بدلاً من الانغلاق.
وقال إن المطلوب اليوم هو بناء “ذكاء إنساني موازٍ” للذكاء الصناعي، أي تنمية وعي الإنسان ذاته ليكون قادرًا على التفاعل النقدي مع ما تقدمه الآلة، لا أن يتحول إلى تابع لها.
الكتاب المدرسي.. بذرة الوعي وبداية صناعة السلام
وفي محور مهم، أكد الدكتور الخشت أن صناعة السلام تبدأ من الكلمة، وأن الكتاب المدرسي هو البذرة الأولى للوعي الإنساني.
وأوضح أن محتوى التعليم يمكن أن يكون جسرًا نحو التسامح أو طريقًا نحو التعصب، مؤكدًا أن المناهج التعليمية يجب أن تُصاغ بروح منفتحة تُعلّم الأطفال الحوار، وقبول الاختلاف، والتفكير المستقل.
وأشار إلى أن إصلاح التعليم لا يكون بإضافة دروس عن التسامح فقط، بل بتغيير المنطق البنيوي للمناهج بحيث تزرع حب السؤال، وتُشجع البحث لا التلقين.
وأضاف: “إننا لن نحصل على قارئ متسامح ما لم نزرع في الطفل شغف المعرفة منذ الصغر.”
الفكر العالمي يدعم القراءة بوصفها طريقًا للسلام
استشهد الخشت بعدد من المفكرين العالميين الذين ربطوا بين المعرفة والسلام، مثل ليو تولستوي، وبرتراند راسل، وباولو فريري، الذين أكدوا أن تحرير الإنسان من الجهل هو الخطوة الأولى لبناء عالم متسامح.
وأشار إلى أن الفيلسوف تولستوي رأى في التعليم وسيلة لتقليل الحروب، بينما دعا راسل إلى “عقلانية القلب”، أي الجمع بين التفكير العلمي والرحمة الإنسانية، وهي الفكرة التي تلتقي مع ما دعا إليه الخشت مرارًا في مشروعه الفكري حول “تجديد الخطاب الديني والعقلاني المستنير”.
توصيات الخشت: من القراءة إلى الفعل
وفي ختام محاضرته، قدّم الدكتور محمد عثمان الخشت مجموعة من التوصيات العملية لتعزيز ثقافة القراءة ومواجهة التطرف الفكري في العالم العربي، من أبرزها:
- إدماج مفاهيم السلام والتسامح في مناهج التعليم والقراءة المدرسية.
- إنشاء نوادٍ قرائية حوارية تجمع مختلف الفئات الاجتماعية والفكرية.
- دعم الترجمة والتبادل الثقافي لبناء وعي إنساني مشترك بين الشعوب.
- توجيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي نحو المحتوى المتنوع والمستنير.
- إطلاق مبادرة “اقرأ من أجل السلام” لتشجيع الأجيال الجديدة على الارتباط بالكتاب والوعي.
وأكد الخشت أن القراءة ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة أخلاقية لبقاء الإنسان إنسانًا، وأن “كل كتاب رشيد يُفتح هو لبنة في جدار السلام”.
الخشت: الثورة الهادئة تبدأ بصفحة كتاب
اختتم الخشت حديثه بعبارة مؤثرة تلخص فكرته المركزية:
“القراءة الرشيدة هي الثورة الهادئة القادرة على بناء عالم متسامح، لأن من يقرأ بعمق لا يقتل، ومن يفكر لا يتعصب، ومن يعرف لا يخاف.”
وأشار إلى أن المجتمعات التي تستثمر في القراءة تستثمر في السلام والعقل، بينما التي تهملها تفتح أبوابها أمام التطرف والجمود.
الخشت.. مشروع فكري يجمع بين الأصالة والعقلانية
ويُعد الدكتور محمد عثمان الخشت أحد أبرز المفكرين العرب في قضايا تجديد الخطاب الديني والعقلانية الحديثة.
فهو صاحب مشروع فكري متكامل يقوم على تحرير الدين من الجمود والتقليد، وإعادة قراءته بعين نقدية تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
خلال توليه رئاسة جامعة القاهرة، أطلق مشروعات فكرية وتعليمية رائدة، أبرزها تأسيس جامعة القاهرة الدولية، وإدخال مناهج التفكير النقدي وريادة الأعمال ضمن منظومة التعليم الجامعي.

كما أسهم من خلال مؤلفاته وندواته في إثراء الحوار الثقافي والديني، داعيًا إلى تجاوز الصراعات الأيديولوجية، وإعادة بناء العقل العربي على أسس معرفية وإنسانية.
ويُعرف الخشت بدعوته المستمرة إلى الدولة الوطنية المدنية، ورفضه لكل أشكال التسييس الديني أو الانغلاق المذهبي، مؤكدًا أن الدين في جوهره رسالة سلام، لا وسيلة صراع.
كلمة ختامية: عندما تصبح القراءة فعل سلام
خرج الحضور من ندوة الدكتور الخشت بانطباع عميق بأن القراءة ليست نهاية المطاف بل بدايته، وأن مواجهة التطرف لا تتم بالجدال فقط، بل بتكوين عقول قادرة على الفهم والنقد والمقارنة.
كانت رسالته واضحة:
أن الكتاب هو السلاح الأرقى ضد الجهل، وأن الصفحة الأولى في معركة الوعي تبدأ دائمًا بكلمة واحدة خالدة: اقرأ.
