الشارقة – السابعة الاخبارية
مو جودت، في واحدة من أكثر الجلسات تأثيراً ضمن فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب 2025، وقف الكاتب والمفكّر العالمي مو جودت ليقدّم رؤية مختلفة وعميقة حول معنى السعادة في زمن يمتلئ بالأسئلة والضجيج والمعلومات المتضاربة. جاءت الجلسة تحت عنوان “النجاح والسعادة في عصر التحديات”، وأدارها الإعلامي عبدالله الحمّادي، لتتحوّل القاعة إلى مساحة للحكمة والتأمل وإعادة اكتشاف الذات.
كان حضور جودت لافتاً، ليس فقط لأنه أحد أكثر الأصوات العالمية تأثيراً في موضوع السعادة، بل لأنه يتحدث من تجربة شخصية عميقة ومؤلمة شكّلت فلسفته في الحياة. ومثلما يحمل معرض الشارقة رسالة الإنسان والمعرفة، حملت كلمات جودت رسالة البحث عن السلام الداخلي في عالم مضطرب.
مو جودت.. السعادة خيار يومي وليست لحظة عابرة
بدأ مو جودت حديثه بنقطة جوهرية: السعادة واجب يومي يمارسه الإنسان بالاختيار الواعي. يؤكد أن السعادة ليست شيئاً ينتظر الإنسان حدوثه، بل فعلاً يتخذه كل يوم، متأسساً على الرضا وقبول ما لا يمكن تغييره، والبحث المستمر عن الحقيقة بعيداً عن الوهم والزيف.
يرى جودت أن العالم اليوم مليء بالتحديات—من المعلومات المتضاربة إلى الضغوط اليومية—لكن القدرة على فهم هذه المعلومات بعمق تمنح الإنسان تحكماً أعظم بذاته وبعواطفه. لهذا، تصبح السعادة بالنسبة له مهارة تُمارس، وليست نتيجة تُمنح أو تُصادر.

ومن منصة معرض الشارقة، شدّد على أن السعادة ليست نقيض الألم، بل الطريقة التي نتعامل فيها مع الألم. وأن الإنسان يمكن أن يعود إلى قلبه كل يوم، ليمارس الوعي، يفهم ذاته، ويختار طريقه رغم كل الضجيج من حوله.
الكتاب… الرفيق الذي لا يُستبدل
لم تكن جلسة جودت بعيدة عن روح معرض الشارقة، إذ عبّر عن انبهاره العميق بالتنظيم وبالحضور الثقافي الواسع. وأكد أن علاقته بالكتب بدأت منذ الطفولة، وأن معارض الكتب شكّلت جزءاً من تكوينه الفكري.
يرى جودت أن الكتاب مساحة للغوص العميق في المعرفة، وهو ما لا يمكن للوسائط الرقمية أن تعوّضه مهما تقدّمت التكنولوجيا. فالقراءة تمنح القارئ إمكانية التوقف، التأمل، إعادة الفهم، ومراجعة الذات، بينما يبقى المحتوى الرقمي سريعاً وعابراً ومحمّلاً بالضجيج.
ورغم ذلك، يعترف بأن الموضوعات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى متابعة رقمية مستمرة نظراً للتطور الهائل فيها، لكن هذا لا يلغي مكانة الكتاب بوصفه الوسيلة الأعمق للتعلم.
فقد ابنه فكتب عن السعادة… الألم الذي صار رسالة
استعاد جودت خلال الجلسة واحدة من أكثر لحظات حياته تأثيراً: فقدان ابنه “علي”. تلك التجربة التي كسرت قلبه لكنها شكلت فلسفته الجديدة. قال إنه تعلم من هذه التجربة الصبر والرضا، وأن اللحظات الصغيرة في الحياة هي ما تستحق التركيز والاحتفاء.
هذا الألم الذي تحوّل إلى بصيرة، قاده لكتابة كتابه الشهير حول السعادة، بهدف نشر رسالة تُساعد الناس على تجاوز خساراتهم وقلقهم، وتمكنهم من رؤية الحياة بعيون مختلفة. لقد أراد أن تكون تجربته نافذة لغيره، وطريقاً يضيء أمام من يبحثون عن معنى في عالم شاق.
كان من الواضح أن الجمهور لمس صدق التجربة في صوته، وأن رسالته جاءت من قلب جُرّب الألم وتجاوزه، وليس من تنظير فكري بعيد عن الواقع.
الذكاء الاصطناعي… أداة قوية لا خطر فيها إلا في يد الإنسان
انتقل جودت بعد ذلك إلى موضوع يحتل جزءاً كبيراً من اهتمام العالم اليوم: الذكاء الاصطناعي. وأكد أن الإنترنت يعج بالمحتوى المضلل أحياناً، وأن مسؤولية الإنسان هي تطوير وعي نقدي يميز بين الحقيقة والضجيج.
وقال إن الذكاء الاصطناعي ليس الشرير الذي يتوقعه الكثيرون، بل أداة قوية يمكن استخدامها في الخير أو الشر، تماماً مثل أي اختراع بشري. وتحدث عن أمثلة مذهلة: الذكاء الاصطناعي بات يبتكر أنواعاً جديدة من الرياضيات، يصلح منظومات حسابية كانت تُعد مستحيلة، ويساهم في اكتشاف علاجات لأمراض معقدة مثل السرطان.
لكن مع كل هذا التقدم، يؤكد جودت أن الخطر لا يكمن في التقنية نفسها، بل في طريقة استخدامها. ويضيف عبارته الشهيرة:
“من ينهي وظائف الناس هو المدير… وليس الذكاء الاصطناعي، ومن يصنع الأسلحة هو الإنسان وليس الآلة.”
وبهذا الطرح، قدم رؤية متوازنة تُبعد الخوف من التقنية، وتضع المسؤولية في يد الإنسان.
المحتوى الرقمي… بين المعرفة والضجيج
شدد جودت على أن الإنترنت سمح بتدفق هائل للمعلومات، لكن هذا التدفق جاء معه قدر كبير من التشويش. لذا، يرى أن مهارة البحث عن الحقيقة أصبحت من أهم مهارات العصر الحديث. وعلى الشباب أن يتعلموا القراءة النقدية، والتمييز بين ما هو حقيقي وما هو دعائي أو متلاعب.
كما تحدث عن تجربته مع أنس بوخش في بودكاست حول الذكاء الاصطناعي، وكيف أن شغفه بالتكنولوجيا بدأ منذ عمله في غوغل عام 2007، لكن ما يراه اليوم من تطور فاق كل توقعاته، وأكد في حديثه أن العالم يدخل مرحلة غير مسبوقة من التغيير.
نصائح للشباب… مهارات لا يمكن للآلة أن تنافسها
اختتم جودت الجلسة بنصائح عملية وواقعية موجهة للشباب الذين يحاولون الاستعداد لمستقبل سريع وحافل بالتغيرات. أهم هذه النصائح:
- اختر مجالاً تتقنه بعمق، وكن ضمن أفضل 30% فيه.
- طور قدرتك على التفكير النقدي وتمييز الحقيقة من التضليل.
- ضع رؤية واضحة لمستقبلك، ولا تعمل بلا هدف.
- ركّز على علاقاتك الإنسانية، فهي المهارة التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي منافستها.
- كن واعياً… واختر سعادتك كل يوم.

كانت هذه الرسائل متسقة مع روح المعرض الذي يضع الإنسان والمعرفة في قلب اهتمامه، ويمنح الشباب مساحة للتعلم من خبرات عالمية مثل خبرة مو جودت.
ختاماً… مو جودت يترك بصمة جديدة في الشارقة
لم تكن جلسة مو جودت مجرد محاضرة، بل كانت مساحة للتأمل، للمصارحة، ولتذكير كل فرد بأن حياته بين يديه، وأن السعادة ليست رفاهية بل ممارسة يومية تتطلب وعياً وصدقاً مع الذات.
وفي معرض الشارقة—الذي يجمع القرّاء والمفكرين والكتّاب على منصة واحدة—جاءت رسالة جودت متناغمة مع روح المكان:
العلم مسؤولية، المعرفة قوة، والإنسان هو محور كل شيء.
وهكذا، خرج الحضور بكلمات لا تُنسى، وبقناعة واحدة:
السعادة خيار… والنجاح رحلة تبدأ من الداخل، لا من الخارج.

